لا أوافق الرأي القائل بأنه سوف تعكف الأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها وعلى أنواعها المتعددة، المختلفة شكلا ومتطابقة منهجا وسلوكا لدراسة نتائج ما أفرزته صناديق الإنتخابات البلدية، ليس لأن المؤشرات الإنتخابية لا تعنيها أو أنها جاءت وفق هواها وكما كانت مرجوة ، بل العكس تماما هو الصحيح والأحزاب السياسية لأصحابها الزعامات الطائفية هي الأكثر استشعارا للخطر المحدق والرياح التغييرية التي لفحت وجوههم لحظة فتح الصناديق.
وعليه فهذه الأحزاب " العريقة " لا تحتاج إلى كثير وقت ولا إلى ما يسمى بالإعتكاف حتى تعرف ما جنته أيديهم وما هو رأي الناس فيها، بل هي قد أنهت دراستها وعرفت ما ينتظرها حتى قبل بدء العملية الإنتخابية، وما التحالفات العجيبة الغريبة التي ولدت على هيئة مسوخ إلا من رحم هذه المعرفة المضطربة . قالها بالأمس الرئيس بري بشكل واضح : " هناك تغييراً في المزاج الشعبي ينبغي رصده والتقاطه، والذي لا يلمس هذا التغيير يكون إما أعمى أو أغشى .. "
لا شك أن ما جرى بانتخابات طرابلس وفوز اللائحة المدعومة من اللواء أشرف ريفي، هي أبرز مصاديق هذا التحول والتغيير وهو بمثابة المحصلة التراكمية الطبيعية لحالة الرفض الشعبي بكل مراحله ابتداء من الحراك الذي شهدته ساحات بيروت وبقية المناطق والذي وصل الى ذروته في 29 آب الفائت بأضخم تظاهرة احتجاجية مرورا ببيروت مدينتي وبعلبك مدينتي والنبطية مدينتي حتى استقر أخيرا بالفوز الذي تحقق على أيدي اللواء ريفي.
لقد شهدنا في مرحلة الحراك كيف أن الطبقة السياسية عملت بالتضامن والتعاضد للوقوف سدا منيعا في وجهه واجتهدت بكل ما أوتيت من حيلة وإمكانيات وسخرت ما لديها من نفوذ وسلطة وكانت كالبنيان المرصوص يدافع بعضها عن بعض بالإستماته عن الدفاع حتى عن الخصوم من أجل ضمان بقائها واستمرار وضع يدها على مقدرات البلد.
ولأن الإنتصار على أي حلقة من حلقات هذه الطبقة السياسية هو بالضرورة يعني بداية انفراط هذه السلسلة وتهديد مباشر لمصالحها المترابطة من أقصى الجنوب إلى أقاصي عكار، ومهما كان حجم هذه الحلقة حتى لو على مستوى وزير بيئة استقال من مهمته في اتعس الظروف فكيف والإنتصار الريفي هو حلقة لعلها من أقوى الحلقات وأمتنها وأثراها، فإن الحديث ها هنا له معنى مختلف تماما كما وأن تداعياته سوف تطال حتما وبشكل مباشر تهديدا حقيقيا لما تبقى من الحلقات الملتفة حول عنق الشعب اللبناني.
مخطيء تماما من يعتقد أن ردة فعل الأحزاب والطبقة السياسية والزعامات اللبنانية سوف تنحو بالمنحى الإيجابي وأن هذه الزعامات سوف تعمل على إعادة ترميم علاقاتها مع الجاهير على قاعدة الإصلاح والنقد وتحسين السلوكيات من أجل تفادي ما هو أعظم.
فإذا كان لبنان يشهد على يد اللواء اشرف ريفي ما يشبه الربيع اللبناني فإن " بشارات " (جمع بشار) الطبقة السياسية سوف لن تألوا جهدا على استعمال براميلها وطائراتها ،، وعلى المجتمع التغيير والقوى الحية الطامحة والمؤيدة للثورة " الريفية " أن تعي بأن ما بعد أشرف ريفي لن يكون أسهل مما قبله، وأن المعركة الحقيقية التي تبدت معالمها تتوضح بين جبهتين اثنتين واحدة هي الطبقة السياسية بكل متشعباتها وأحزابها في مقابل قوى شعبية طامحة للتغيير، وما " فنعة " التمثيل المسيحي إلا واحدة من براميل السلطة التي سوف ننتظر منها الكثير .