انتهت الانتخابات البلدية في لبنان بعد إنجاز آخر مراحلها في الشمال، ونظرا للتمديد مرتين للمجلس النيابي، أخذت الانتخابات البلدية طابعا سياسيا بدلا من الطابع الإنمائي المفترض.
على الصعيد الشيعي، تعرض ما يسمى بحزب الله في البقاع، وتحديدا في بعلبك، لهزة قاسية، محققا انتصاره بطعم الذل أمام رئيس البلدية الأسبق غالب ياغي، وتمكنت بعض القوى اليسارية من إحداث خروقات عدة في الجنوب، وهذه النتائج دفعت الحزب الإلهي إلى تراجع مبطن عن قانون الانتخابات النيابية النسبي لصالح تأييد ضمني لقانون الستين الأكثري عبر مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري.
وعلى الصعيد المسيحي، تمكنت قوى “الأطراف” كبطرس حرب وهادي حبيش والياس المر ومنصور البون وفريد هيكل الخازن ونعمة فرام وحزب الكتائب من إثبات وجودها – أيا كان حجمه – خارج “مركزية” الثنائية المسيحية (القوات والعونيون).
أما الحديث السني فيستحق الاستفاضة، لقد ركز تيار المستقبل جهوده على ثلاث معارك أساسية في بيروت وطرابلس وصيدا، وفي علامة تراجع ترك بقية المناطق، البقاع وعكار والضنية، لمصلحة العائلات والقوى المحلية، وقد حقق الحريريون انتصارا لا لبس فيه في صيدا، وحققوا انتصارا كاملا في بيروت مع بقية أطياف المدينة السياسية، لكنه كان انتصارا باهتا، لكن المفاجأة المدوية أعلنتها طرابلس عاصمة الشمال.
تحالف تيار المستقبل مع الرئيس نجيب ميقاتي والوزير محمد الصفدي والوزير فيصل كرامي والأحباش والجماعة الإسلامية وغيرهم ضد الوزير أشرف ريفي، وكانت الأجواء قبل الانتخابات تتحدث عن هزيمة ريفية ثقيلة تنهي حضور ريفي السياسي ومستقبله، وفي أفضل الأحوال قد يتمكن ريفي من الخرق بمقعد واحد أو مقعدين، لكن ما حصل هو العكس كليا، فقد حقق ريفي انتصارا ساحقا ماحقا أمام كل زعامات طرابلس العائلية والمالية والسياسية، فلماذا حصل ذلك؟
أسباب الانتصار
أول أسباب انتصار ريفي طرابلسيا يتمثل في احترام الخصم، حين سألت الماكنات الانتخابية المواجهة لريفي عن النتائج التقريبية التي يمكن أن يحققها في وجه التحالف العريض، سمعت غير مرة هذه الإجابة “صفر”، وحين سألت ماكنة ريفي كان الجواب “في ظل مواجهة الجميع نتوقع أن تكون المعركة ندية، “عالمنخار”، ولو حققنا 30 بالمئة من الأصوات، أو أحدثنا بعض الخروقات، سنعتبر أنفسنا منتصرين، لأننا أولا نريد معرفة حجم حضورنا الانتخابي رغم معرفتنا وثقتنا بحجم حضورنا الكبير شعبيا وسياسيا، كما أننا لو حققنا هذه النتيجة فهذا يعني أننا أقوى من كل طرف في المدينة منفردا”.
وثاني أسباب الانتصار، التقدير الصحيح للواقع وللقدرات، كان الوزير ريفي مسلحا بإحصاءات محدثة تشير إلى أن وزنه في الشارع يساوي كل خصومه مجتمعين، وبالمناسبة لم يصدقه أحد، وكانت تقديرات خصومه تتحدث عن أن كل الشارع لهم، فربح صاحب المعلومة الصحيحة وخسر صاحب المعلومة الخاطئة.
وثالث أسباب الانتصار الريفي كامن في احترام الناخب والتعبير عنه، فقد تميزت لائحة ريفي بتمثيل صحيح – ولأول مرة – للأحياء الطرابلسية الشعبية، الناخب الوازن في طرابلس، أما اللائحة الأخرى فبدا أنها تشكلت من فوق، هذا غير ملاحظات تعذر استيعابها من الناخب الطرابلسي، فالكتلة الحريرية شنعت على الرئيس ميقاتي وحزبه إثر سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري 2011، وتم وصف الرئيس ميقاتي بعميل حزب الله، وتم وسم حكومته بلقب “حكومة القمصان السود”، هذا غير سجال عريض تلا تشكيل الحكومة الميقاتية وسقوطها، وفوجئ الطرابلسيون بأن خصوم الأمس أصبحوا حلفاء اليوم من دون مصالحة حقيقية، لا الرئيس ميقاتي زار الحريري ولا الحريري زار ميقاتي، إنما التقيا عند رئيس الحكومة تمام سلام وفي دارة السفير السعودي علي عواض عسيري، فبدا أن تحالفهما ليس تحالف مصالحة وسياسة إنما تحالف سلطة، فأسقطه الناخب في صندوق الاقتراع.
رابع الأسباب، الأداء السياسي للرئيس ميقاتي وتكوين حزبه “تيار العزم”، فالرجل يتحلى بدماثة شخصية نادرة، كما يتميز بقدرات إدارية محترمة، لكن مكونات تيار العزم لا تخدمه ولا تخدم أي زعيم سياسي، إذ يتألف تياره من شريحتين: محبي نجيب ميقاتي وكارهي سعد الحريري، أي أننا باختصار أمام تيار شخصي لا سياسي، وهكذا تكوين يسهل تفتيته بسبب انعدام الرابطة السياسية بين أنصاره، ومعالجة هذه الثغرة لا تتم بين يوم وليلة، إنما بالخطاب السياسي قبل كل شيء، وهنا المشكلة الأهم في أداء الرئيس ميقاتي، لا تستطيع أن تحدد له موقفا سياسيا واضحا، يريد إرضاء الجميع وهذا هو المستحيل، وفي لحظة استعار الصراع في المنطقة على كل المستويات يريد الوقوف في الوسط، ومن يقف في وسط في هذه الظروف يصبح في مرمى نيران الجانبين، حاول أن يكون جسرا بين نقيضين، لكن في الحروب يبدأ القصف عادة باستهداف الجسور.
خامس أسباب الانتصار الريفي، وهو الأهم مطلقا، الأداء السياسي لتيار المستقبل، وقد تحدثنا عن ذلك مرارا، أخطاء متوالية ارتكبها الشيخ سعد الحريري، لم تبدأ بغيابه الطويل منذ سقوط حكومته، ولم تنته بأدائه في الملف الرئاسي، لم يعد له حليف وازن في المشهد اللبناني كله، الجفوة مع القوات اللبنانية تتفاقم، والتباين مع وليد جنبلاط قائم، وحزب الكتائب ليس راضيا عن ترشيح سليمان فرنجية، وأسباب ذلك غير موقف عامل فيه الخصوم كأصدقاء، وعامل فيه الحلفاء كخصوم، حين انتصر تصرف كمهزوم، وحين انكسر لم يفعل نقد الذات، أعطى الكثير لمن لا يستحق ومن دون مقابل لائق، وحين أخذ الكثير ممن يستحق لم يقدم ثمنا معقولا، تحلق حوله أسوأ طاقم استشاري يمكن أن يؤتى لزعيم سياسي.
أخطاء المستقبل
ليست المشكلة شخص الرئيس سعد الحريري أو عقيدته السياسية، المشكلة هي أداؤه المرتعش وبطانته المتذاكية حصرا، وليس أدل على ذلك أن ريفي ينتمي إلى نفس الخط السياسي، بل إن مرشحه لرئاسة البلدية هو مرشح رفيق الحريري سنة 1998، وهذا يدل على أن زعيم السنة الأوحد إلى اليوم هو الرئيس الشهيد شخصا ومبادئ، وأن الجمهور السني ليس جمهور المال السياسي بل الموقف السياسي، وبالتالي فإن مراهنة حزب الله على تفتيت زعامة سعد الحريري كمدخل لشرذمة السنة بطابور خامس سقطت، فكل سني في لبنان هو رفيق الحريري، والجمهور السني لا يمثل الزعماء، بل إن الزعماء هم من يمثلون السنة، وكان خطاب ريفي الانتخابي ذكيا حين أعلن أنه لم يخرج عن خط رفيق الحريري بل إن تنازلات تيار المستقبل لحزب الله هي الخروج عن رفيق الحريري.
إن قوة تيار المستقبل مستمدة من 14 آذار، وانكمش التيار إلى قواعده الأصلية (بيروت وصيدا) حين ظن أن قوة 14 آذار مستمدة منه، الزعيم هو من يمثل جمهوره، وخسر سعد الحريري حين ظن أن الجمهور يمثله.
والمشكلة الأساس التي عصفت بتيار المستقبل هي تقوقعه في ذكرى 7 أيار، أصبح يتصرف في السياسة بضعف وبخوف واضحين، مع أن 7 أيار أهدته نصرا انتخابيا كاسحا سنة 2009، وتغير الظروف المحلية والإقليمية يجعل قيام الحزب الإلهي بإرهاب داخلي جديد له كلفة عالية جدا، ومع ذلك فإن تيار المستقبل تصرف بتحفظ في جل الملفات السياسية، لم يستخدم أهم ورقة في يده وهي جمهور 14 آذار، وحافظ بلا ثمن على حكومة تشريع الفراغ، ورشح حليف الميليشيا سليمان فرنجية، وحين تصرف بضعف أهمل الحزب الإلهي مبادراته وأوغل في فراغه وإرهابه، ثم جاءت الانتخابات البلدية وأعلن جمهور 14 آذار امتعاضه الصريح من أداء تيار المستقبل، فالجمهور لا يقبل ضعف الزعامة أو استضعافها لنفسها ولجمهورها.
والأسوأ، هو التصرف كخاسر لحظة الانتصار، حصل ذلك بعد انتخابات 2009 حين تم تسليم حزب الله الثلث المعطل في حكومة الوحدة الوطنية، وترشيح تمام سلام بعد سقوط حكومة نجيب ميقاتي، وعدم استثمار وهج عودة سعد الحريري في فبراير الماضي، وعدم مواكبة إيقاف الهبة السعودية للجيش اللبناني بالتصعيد السليم الذي يعيد صياغة التوازنات في لبنان لمصلحة 14 آذار، كالنزول إلى الشارع والاعتكاف على الحكومة وإسقاط ترشيحي عون وفرنجية.
نقد ذاتي
أتمنى من الأصدقاء في التيار الأزرق وكل الأحزاب تفعيل النقد الذاتي، والاستماع للأصدقاء المخلصين بدلا من المنتفعين المتنفذين. وقد يقال إنني أكثر النقد لتيار المستقبل وأغض الطرف عن الأخطاء السعودية في لبنان، وهذا ليس صحيحا، فالسعوديون ككل البشر في كوكب الأرض لهم أخطاؤهم، وعلى رأسها الضغط على الحريري لزيارة بشار الأسد، وإهمال لبنان بعد الربيع العربي الذي أتاح تغلغلا إيرانيا، ومن ذلك أيضا الرهانات الخاطئة على بعض الأشخاص كعبدالرحيم مراد وتجاهل حليف مخلص كفؤاد السنيورة، وعدم محاصرة الحزب الإلهي داخل لبنان، وغير ذلك كثير، والمسؤولون السعوديون مطالبون بالنقد الذاتي أيضا.
في هذه المعالجة لا أقول إن تيار المستقبل وبقية الأحزاب السياسية من كل الطوائف انتهت، بل وهنت، وحين نضع هذه النتيجة في سلة إيجابيات وسلبيات نتائج الانتخابات البلدية سنلمس أن كفة الإيجابيات لمصلحة 14 آذار ومحور الاعتدال فاقت كفة السلبيات.
أسقطت الانتخابات ترشيحات حلفاء حزب الله (ميشال عون وسليمان فرنجية) رئاسيا، كما أعلن أغلب الشعب اللبناني رفض مشروع حزب الله وإيران لكنه وجه صرخة نقدية للطبقة السياسية التي يفترض أن تقود هذا الرفض.
ومع أنني شخصيا كنت من أنصار “المصالحة”، أثبتت الانتخابات البلدية أن فكرة المصالحة السنية-السنية التي عمل عليها كثر من الداخل والخارج لم تعد ذات جدوى، فقيادة السنة بحاجة إلى العودة لخطاب رفيق الحريري و14 آذار وما عدا ذلك لا فائدة منه.
وختاما يتوجه الكلام للزعيم أشرف ريفي، فقد أثبت هذا الرجل أن 14 آذار لا يمكن أن تموت، رفض ترشيح عون وفرنجية وأثبت أنه على حق، رفض تغول حزب الله وأثبت أن هذا هو الحق، وما ألاحظه اليوم بداية حملة عليه وعلى طرابلس تصورهما كرمزية للتطرف والإرهاب، وهذه الحملة سبق أن استهدفت سعد الحريري، وهدفها ربط السنة بالإرهاب وتصوير كل من يعارض مشروع إيران وعملائها كإرهابيين في مقدمة للاضطرابات الأمنية والاغتيالات، فالحذر واجب من إيران وحزب الله وبشار الأسد، فهم أصل الإرهاب وتعريفه، ولذلك لا بد من مواجهتهم وإسقاطهم، كلنا للوطن، عشتم وعاش لبنان.
العرب:أحمد عدنان