تمهيد:
ينبغي أولا تعريف الارتكاس في اللغة: هو الارتداد، والركس قلبُ الشيء على رأسه، أو ردُّ أوله على آخره، وفي التنزيل: والله أركسهم بما كسبوا، قال الفرّاء : ردّهم إلى الكفر، والركيس : الضعيف المرتكس.
أولا: الحكم بين الراعي والسياسي..
معلوم منذ فجر التاريخ الحضاري للبشر أنّ المجتمعات الشرقية أرست فكرة الحاكم-الراعي كما حصل في مصر وأشور ويهودا، وذلك على خلاف ما أرساه الفكر السياسي الإغريقي المرتكز على العلوم والفلسفة، والذي نحا نحو فكرة الملك المُلفّع بالسياسي ، في حين أنّ الفرعون المصري كان راعيا، وفي يوم تتويجه كان يتسلم عصا الراعي في طقوس وشعائر.
وملك بابل كان له الحق في عدد من الألقاب، من بينها "راعي البشر".بيد أنّ العبرانيين هم الذين طوروا الموضوع الرعوي وتوسّعوا فيه، مع ميزة جديدة تقوم على أنّ الإله وحده هو راعي شعبه، فقد نودي على داوود باسم الراعي، بصفة كونه مؤسس المملكة، وقد عهد إليه الإله تجميع القطيع ولمّه.
ولا ننسى الاستثناءات السلبية: فالملوك الاشرار يشبهون الرعاة الأشرار، إنّهم يُشتّتون القطيع ، ويدعونه ينفق من العطش، ولا يجزّون صوفه إلاّ من أجل صالحهم الخاص، ويهوه هو دون سواه الراعي الحقيقي الذي ليس كمثله أحد، يقود شعبه بنفسه، يساعده أنبياؤه وحده" كالقطيع تقود شعبك بيد موسى وهارون"،قال النبي داوود.
يبقى أنّ الفارق جوهري وجذري بين الراعي والسياسي، الراعي يجمع قطيعه، ويقوده، ويهديه. الرئيس السياسي يضطلع بمهمة وقف المنازعات داخل المدينة، وبتغليب الوحدة على الصراع، وهي الفكرة الماثلة بلا شك في الفكر الإغريقي، ولكن ما يجمعه الراعي هم أفراد مبعثرون مشتتون، يجتمعون بدويٍّ من صوته" أنفخ فيجتمعوا"، وبالعكس ،فإنّه يكفي أن يغيب الراعي حتى يتشتّت القطيع، وهكذا، فإنّ وجود القطيع رهنٌ بحضور الراعي وعمله المباشر، هذا في حين أنّه ما أن فرغ المشترع الإغريقي من تنظيم المنازعات وتقنينها، على غرار ما فعل "صولون" حتى خلّف وراءه مدينة قوية.
ثانيا : رفيق الحريري، راعٍ بلباس أمير..
الراحل رفيق الحريري ، وربما غاب عن ذهن ريفي، حلّ على دولة تنخرها الحرب الأهلية، ولم ينزل كرجل سياسي، متمرّس في شؤون الحكم، بل نزل كراعٍ جديد، أو امير(فلنتذكر الميكيافيلية). والأمير يهتم بمسألة معرفة كيف يمكن حماية الولاية أو المدينة، أو الإقطاعة، أو الدولة"الخربانة" عندنا، أي يجهد كي يحفظ العلاقة بين الأمير والدولة، ومن هنا كان الحريري يُردّد عندما تأخذه العزّة ويشعر أنّه الدولة: "ما حدا أكبر من بلده" وذلك على سبيل التواضع، في حين أنّ منطق الدولة يختلف عن منطق مكيافيللي السيء الذكر، والذي كان همّه كيف يستقر حكم الأمير، لقد أدار الحريري الدولة بمنطق الإمارة، لذا تهاوت بعد رحيله، وهاهو خلفهُ يتعثر في المحاكاة والتقليد.
لعلّ تجربة الراحل فؤاد شهاب تتّسق مع منطق الدولة،الذي هو أرقى أنواع الفنون، هو "فن" أي تقنية تتوافق مع قواعد إنشاء الدول الحديثة، فقد عمد شهاب إلى إقامة المؤسسات التي ترعى شؤون الدولة والمواطنين على السواء، مع توسيع دائرة التعليم والخدمات ومدّها إلى المناطق النائية، كل ذلك انهار مع الحريرية المتواطئة مع الميليشيات والموضوعة بخدمة الوصاية السورية، وربما يُغتفر للحريري يومها أنّه كان تحت رحمة الميليشيات والوصاية، وهذا لا ينتقص من هيبة وفرادة الأمير رفيق الحريري، وربما يضعه التاريخ يوما ما في مصاف أمراء الجبل: فخرالدين المعني وبشير الشهابي.
منطق الدولة،الذي يجب أن تعود إليه سيادة اللواء، وهو لا يتماثل اليوم مع الحريرية، قديمها وجديدها، وهو بالطبع يتعارض مع منطق الدولة البوليسية، والذي تنحو نحوه بسرعة فائقة دولة لبنان اليوم، فالاجهزة الأمنية ،على أهمية دورها، فإنّ مهامها وأدوارها تتضخم وتتوالد بشكل سرطاني مخيف، على حساب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويستشهدون ،أي بعض السياسيين، وبغباء واضح، أنّ البلد بخير، رغم خلو سدة الرئاسة لمدة سنتين،لأنّ الأمن "ممسوك"، في حين يتهاوى الاقتصاد ، وتُدمّر الطبقة الوسطى، وتتسارع وتيرة الفساد، وتتعطل مؤسسات الرقابة عن القيام بمهامها.
ما عليك، سيادة اللواء، أن تنزل إلى المعترك السياسي، متخففا من أثقال الحريرية، خاصة أنّك لا تملك ما كان يملكه الحريري من إمكانيات ضخمة، ولم يعُد مطلوبا توطيد سلطة أمير، بل المطلوب توطيد سلطة الدولة، طبيعة الدولة كما تعلم أن تصرع أعداءها في فترة زمنية محددة، لا أن تتعايش معهم، فيقتاتون من لحمها، ويعيثون فسادا في جسدها( كحالة دولتنا)، الدولة التي هاجسها أن تستمر، غالبا ما يؤول بها المطاف إلى كارثة.
وأخيرا،فإنّ منطق الدولة، ليس فنّاً للحكم، وفق القوانين الإلهية، أو الطبيعية، أو البشرية، إنّما يتعلق الأمر بحكم يتوافق مع قوة الدولة، حكم هدفه تنمية هذه القوة، لا هدم هذه القوة بدويلات ومناطق نفوذ، وهيمنة متمادية على مؤسسات الدولة.
والطريق صعبٌ وشاق، لكنه ليس مستحيلا، وهزيمة فلول الحريرية، بين يديك، أشرف ريفي.