لم تكن إنتخابات طرابلس التي جرت بالأمس على جدول إهتمامات الكثير من المراقبين بقدر أهمية القبيات وتنورين.
فالتحالف الحديدي الذي شكل بين الحريري وميقاتي والصفدي وكرامي والمردة والأحباش والجماعة الإسلامية كان هدفه إزالة إسم أشرف ريفي من الذاكرة الطرابلسية وبدا الأمر سهل التحقيق لقوة وصلابة التحالف المقام، لكن السحر إنقلب على الساحر فتكرس أشرف ريفي في الوجدان الطرابلسي أكثر وتربع على عرش ثاني أكبر مدينة في لبنان فائزا بإنتخابات بلدية طرابلس.
نقاط قوة ريفي الإنتخابية:
فهم اللواء المتمرد على تيار المستقبل ما يريده الشارع الطرابلسي ومدى المعاناة التي يعيشها شباب الأحياء الفقيرة في المدينة إضافة إلى الجرح الأليم الذي يعاني منه أبناء المدينة جراء التفجيرين الإرهابيين اللذين ضربا المدينة وما حصل من جولات عنف بين التبانة وجبل محسن.
فالمأزق الأمني والذي إنعكس مزيدا من الحرمان والوجع خلق مزاجا طرابلسيا حاقدا على النظام السوري وحلفائه وخصوصا حزب الله وما زاد طين الحقد بلة هو إسقاط حكومة سعد الحريري وإستبداله بميقاتي فعزز حالة من المظلومية بدأت تغزو عقول ووعي السنة في لبنان ما أدى إلى ظهور حالات من التطرف في ظل غياب سعد الحريري عن البلد.
عرف ريفي كيف يستوعب ويتبنى هذا الوجع وهذه المظلومية وهذا المزاج فتحول إلى صوت مطالب بحقوقهم فتأسست قاعدته الشعبية على مفاهيم المظلومية والفقر والإستضعاف بمزيج من التطرف.
عندما كان يهاجم حزب الله كان الشارع الطرابلسي يرى في هذا الهجوم بطولة وقوة في زمن " المظلومية"، أصبح ريفي صوت وصدى لهذه المظلومية وهي من أوصلته إلى هذا الفوز الكاسح في الإنتخابات. لقد تعامل خصومه بنوع من الخفة، وكان مقتل الحريري الإنتخابي تحالفه مع قوى مقربة من 8 آذار في المدينة فالحريري راهن على الحصان الخاسر وحول المعركة إلى تحدي واضح في لحظة نمو الغضب السني إتجاه تصرفاته وطريقة ممارسته للحكم وفي لحظة كان اللواء يتحول إلى أسطورة شعبية يهمس بها في أحياء التبانة وطرابلس الفقيرة.
هذه النقاط إجتمعت مع بعضها وتفاعلت وساهمت في تحقيق هذا الإنجاز التاريخي.
حالة حريرية مستقلة:
حرص ريفي على توصيف نفسه بأنه إبن مدرسة رفيق الحريري بشعاراتها ومبادئها محاولا قدر الإمكان تسويق هذه الصورة ليظهر للعلن أنه حريري أكثر من سعد الحريري نفسه.
فالحريرية بأدبيات ريفي المعاصرة هي التصدي للمشروع الإيراني في لبنان متمثلا بحزب الله حسب توصيفه.
ومنذ تقديمه لإستقالته يخطو بخطى ثابتة نحو بناء زعامته الخاصة والمستقلة عن سعد الحريري لا رفيق الحريري.
لكن كثر لم يتوقعوا أن ينجح في ذلك، فقدروا أن الأمر مجرد "همروجة" تنتهي مفاعيلها مع الوقت، ومن هنا أهمية نتائج الإنتخابات اليوم. الإنتخابات قلبت التوقعات وخلقت زعامة سنية جديدة هي الرقم الأول طرابلسيا كرست فيها أشرف ريفي رقما صعبا في المعادلة السياسية كحالة حريرية مستقلة يحسب لها ألف حساب.
من وزير إلى زعيم السنة:
لا شك أن طرابلس هي العمق الإستراتيجي لأهل السنة في لبنان، فمن يسيطر على المدينة يمسك بمزاج لا يستهان به من الهوى السني.
لكن لا يمكن في هذا الصدد غفلان أهمية بيروت وصيدا أيضا، من المبكر الحديث والقول أن ريفي أصبح زعيم السنة في لبنان لسبب طبيعي يعود إلى العبور الواسع لتيار المستقبل عبر المناطق اللبنانية.
فسعد الحريري ما زال الرقم الأصعب حتى الآن في المعادلة السنية السياسية في البلد، وما عكسته نتائج الإنتخابات البلدية هو خلق بيت سياسي سني جديد من بوابة الشمال وحدوده حتى الآن طرابلس.
فريفي سيلعب في البدء على الساحة المحببة على قلبه أي طرابلس قبل التفكير بمد جسور للمناطق الأخرى.
وهنا يبرز الدور السعودي الظابط للإيقاع السني في لبنان، فهي من ستحدد وترسم شبكة العلاقات والنفوذ للزعماء السنة بناءا على معطيات الإقليم والحياة السياسية اللبنانية ومدى الإنسجام مع سياساتها وهذا ما يحرص ريفي على تنفيذه بأفضل أداء.
هو يحاكي السياسة الهجومية التي تمارسها السعودية إتجاه إيران وحزب الله إلى أبعد الحدود، ولكن التفهم السعودي للواقع اللبناني قد لا يذهب بعيدا في المغامرة والرهان على ريفي لذلك سيبقى حاليا وفي المستقبل القريب الرهان قائما على سعد الحريري كزعيم السنة الأول لا الأوحد.
طرابلس ختامها مسك:
بعيدا عن الزواريب السياسية، إستطاع ريفي كسر قواعد اللعبة في الحياة السياسية اللبنانية لأول مرة منذ 2005 تقريبا.
فأن يتحدى شخص حلف قوي ومتين من الأحزاب ويهزمهم لهو أمر إستثنائي ومستجد يجب التوقف عنده مليا والتعاطي معه بعيدا عن الإصطفافات السياسية التقليدية.
إنتخابات طرابلس دقت أول مسمار في نعش قواعد اللعبة السياسية في لبنان، هو أمر غير طبيعي يبشر بالأعظم.
من بيروت إلى طرابلس، جولات وصولات، ختمتها عاصمة الشمال بألف سؤال وإستفسار حول المصير والكيان.
فعلها ريفي، فكان ختامها مسك بطعم التغيير.