أكثر من ثلاثين طلقة اخترقت جسد الشاب العشريني حسين الحجيري الذي تمت تصفيته على يد معروف حمية والد العسكري الشهيد محمد حمية الذي قضى على يد جبهة النصرة عام 2014.

اختصرت هذه الرصاصات كل القراءات والتحليلات وثرثرات السياسيين وتوقعات المنجمين والمناخات المحلية والدولية، ونجحت في رسم خارطة لبنان والمنطقة بوضوح منقطع النظير، لا يمكن أن يخطئ في قراءته إلا من كان أعمى أو من شاء التعامي المقصود.

تعلن هذه الطلقات عن تمكين زمان الإهدار المطلق لكل شيء، للهيبات والكرامات والسلم الأهلي والتعايش المشترك، والدستور، والقانون، والجيش والإعلام.

لم يكن الجيش موجودا بالنسبة إلى القاتل فقد استرجع ابنه إليه، ونفى صلته بالمؤسسة التي كان ينتمي إليها. كان القتل هو صيغة الاسترداد التي قرر أن من شأنها إعادة ابنه إليه، وبذلك اجتمع إهدار الدم مع إهدار صورة الجيش، ومعنى استشهاد العسكري.

كرس الإعلام السياق الإهداري وعمل على إيصاله إلى أقصاه، عبر المقابلة المتلفزة مع القاتل الذي تُرك له المجال ليعبر عن تماهيه مع فعلته وارتياحه لها، وتأكيده أنها ليست سوى فاتحة لزمان قتل متواصل، يعتقد بسذاجة كبيرة أنه يمكنه التحكم به وحصر حدوده في شخصيات محددة.

غطى الدم الشاشات ولكنه كان دما عاجزا عن التعبير. كان دما أخرس لا يملك أصحابه حق النطق باسمه، بل كانت الكلمة للقتلة. كان القاتل من ناحية، وجبهة النصرة من ناحية أخرى، بينما ترك العسكري الشهيد محمد حمية وحسين الحجيري المقتول انتقاما عاريين في صحراء المعاني والخطابات، وتحولت دماؤهما إلى مشهد تلويني يتماهى مع منطق النكروفيليا التلفزيونية التي باتت تمثل روح الشاشات اللبنانية.

بعد ذلك المشهد الراقي الذي نجحت عرسال في تقديمه في الانتخابات البلدية، يأتي هذا المشهد ليثأر من عرسال على نجاحها في الخروج من خيارات أبوعجينة، وهو اللقب الذي كان يطلق على رئيس البلدية السابق، ومن يعادله في محاولة لإعادة تمليك القرية لهذه الحالة التي لم تكن تمثلها، ومحاولة نسبتها إليها في ظل بلديتها الجديدة التي تنطوي على نفس تحديثي جديد.

دعشنة عرسال هو مشروع حزب الله القديم الجديد، وهو إذ يسعى إلى تنفيذه من خلال باب مموه، هو باب الثأر للجنود الشهداء، فإنه يركّب له سياقات حرب أهلية وطائفية، قد تكون في نظره المدخل المناسب الذي يسمح له بالسيطرة المشتهاة على القرية وتدميرها.

لم يعد الثأر الشخصي ممكنا في لبنان، ولم يعد الضحايا قابلين للانتساب إلى أنفسهم إطلاقا، بل بات كل فرد منتسبا بالقوة إلى حالة طائفية حزبية يُقتل على أساسها، ويُثأر له على أساسها أيضا. هكذا لم يعد العسكري الشهيد قادرا على أن يكون ابنا للمؤسسة العسكرية التي نفى الانتقام له وجودها ودورها وقدرتها على الانتقام القانوني المؤسساتي له، وهو ما أعلنه والده بوضوح.

كذلك لم يعد الشاب القتيل مجرد شاب يرتبط بصلة القرابة مع مصطفى الحجيري الملقب بأبي طاقية، الذي يُحمّله والد العسكري الشهيد المسؤولية عن مقتل ابنه، بل بات رغما عنه شهيد السنّة.

لا ترحم البنى الرمزية الحاكمة أحدا، ولا تسمح لأحد بأن يكون صاحب خطاب. من هنا فإن معروف حمية لا ينطق باسم خطاب الانتقام الأبوي من قتلة ابنه، بل يعبر شاء أو أبى عن خطاب الحرب الشيعية ضد السنة، وكذلك هو حال الشاب القتيل الذي لا يُسمح لجثته بأن تقول سوى شيء واحد ووحيد ونهائي عنه، وهو أنه قتيل الانتقام الشيعي من السنة.

من هنا يُطرد والد العسكري الشهيد وعشيرته، والعسكري الشهيد، والفتى المقتول ثأرا، وأبو طاقية وآل الحجيري من المعادلة لصالح النصرة وداعش وحزب الله، التي تترك لها مهمة تصميم الخطاب وشكله، وتحديد هويات الجثث القادمة والتي لن يكون في الإمكان حصر الحدود التي سيتوقف عندها نهرها المتدفق عن الجريان، ولا الأراضي والمعاني والقيم والحدود التي سيجرفها في طريقه.

 

العرب :شادي علاء الدين