اختُرقت شبكة الأمان التي كانت تحيط بمدينتي طرطوس وجبلة، بعد خمسة أعوام من الحرب، بسبعة تفجيرات متزامنة، بعضها انتحاري، تبنّاها تنظيم «داعش»، وذهب ضحيتها حوالي 400 شخص غالبيتهم الساحقة من المدنيين.
وقام «داعش» باستعراض دموي جديد في مدينتي جبلة وطرطوس في نقطتين حيويتين للنقل المدني، تمثلتا في كراجي البلدتين، حيث تتجمع فيهما وسائل النقل القادمة من القرى وتنطلق داخل المدينة، وبالعكس.
وبتزامن رمزي، على المستويين الإجرامي والميداني، حصلت سلسلة التفجيرات التي تقصّد بها التنظيم إيذاء أكبر قدر من الموظفين والطلاب المتوجهين إلى مراكز عملهم أو امتحاناتهم، وصولاً إلى المسعفين في غرفة إسعاف مستشفى جبلة الوطني.
وأزال «داعش» عبر بيان، نشرته وكالة «أعماق» التابعة له، اللبس الذي حصل بتوجيه الاتهام إلى «حركة أحرار الشام» الإسلامية المتطرفة، والذي كان يمكن أن يُبنى عليه سياسياً وميدانياً الشيء المختلف. وذكر البيان أن «هجمات لمقاتلين من الدولة الإسلامية تضرب تجمعات للعلوية في مدينتي طرطوس وجبلة على الساحل السوري». وتحدث عن «10 انغماسيين، اثنان منهم يقودان سيارتين مفخختين، والجميع فجّر نفسه»، مشيرا الى أن خمسة استهدفوا كل مدينة.
ورغم أن البعض شكك بالبيان باعتباره يستخدم مفردات لم يعتد «داعش» على استخدامها، إلا أن طريقة التنفيذ وضخامة الإجرام تخدمان الترجيحات بمسؤوليته المطلقة عن العمليات. ولا وجود معلن لتنظيم «داعش» في المحافظتين، وإذا صح تبنيه للتفجيرات، فإنها تكون بمثابة رسالة بأن التنظيم لا يزال ناشطاً بقوة برغم الهزائم التي مُني بها في محافظات أخرى.
لكن بالرغم من أن التنظيم، أحد أوجه الشر المطلق في الحرب السورية، تبنى التفجير، يمكن القول، في الوقت ذاته، إن نظريات كثيرة سابقة تزعزعت بتفجيرات طرطوس، أولاها القول بأن «المدينة محمية باتفاق سري دولي»، كونها تمثل بغالبيتها العظمى أقلية دينية كما يحصل عادة في حروب ذات إسقاطات دولية ومذهبية من هذا النوع. كما سقطت نظرية احتواء المسلحين، على اختلاف مشاربهم ورعاتهم، باعتبار أن المدينة تضم كتلة نازحين من حلب وحمص والرقة تعادل تقريباً حجم عدد سكانها الأصليين.
وفي الحالة الأولى، سواء كان هناك اتفاق ما أو لا، فإن إعلان التنظيم مسؤوليته عن ترتيب العملية وتنفيذها عن طريق خلايا نائمة، يجعل من آخر المناطق الآمنة في سوريا مسرحاً للاستعراض القاتل، ولا سيما أن المدينة وقراها لم تسلم من مستوى دموي آخر، تمثل بالعدد الأكبر لشهداء الجيش في سوريا، وهي ضريبة دفعها المقاتل من المدينة على كل الجبهات.
أما النظرية الثانية، فتثير الخشية أكثر، على اعتبار أن أكثرية التعليقات التي خرج بها أهالي المدينة على صفحات التواصل الاجتماعي، تذهب لتوجيه اتهامات مضمرة أو علنية لمجتمعات النازحين و «الخلايا النائمة» التي تحتويها. وذهب البعض إلى تسمية مناطق وجودهم وتمركزهم الشعبي، علماً أن أصواتاً معاكسة خرجت أيضا تدعو لتفادي لغة الاتهام، محذرة «من اللغة الطائفية البغيضة».
لكن المرجح أن الخرق الأمني هو الأكثر احتمالاً، ولا سيما أن التفجيرات متزامنة ومخطط لها بعناية، وناتجة من قرار سياسي وميداني ينتظر اللحظة المناسبة لجني النتائج عبر التنفيذ.
وحوالي التاسعة من صباح أمس وقعت تفجيرات فصلت بينها دقائق في مدينة جبلة، اثنان في كراج للنقل المدني، وثالث قرب مديرية كهرباء جبلة، ورابع لانتحاري على مدخل الإسعاف لمستشفى جبلة الوطني ذهب ضحيته عدد كبير من المسعفين وأطباء القسم، وأخرج المستشفى مؤقتاً من الخدمة.
وفي الوقت ذاته، حصل تفجير أول في كراج طرطوس المدني تبعه تفجيران انتحاريان على بوابتين للكراج، بعد ذعر التفجير الأول وتفجير قيل إنه لانتحاري في حي سكني قريب من المناطق الأولى.
وقالت مصادر سورية إن عدد الشهداء بلغ 148 وعدد الجرحى 225، تقاسمتهم المدينتان، في الوقت الذي ترأس فيه وزير الداخلية السوري محمد الشعار اجتماعاً للجنة الأمنية في اللاذقية وطرطوس لـ «تشكيل لجنة جنائية وفنية للتحقيق بملابسات التفجيرات».
وأغلقت مداخل طرطوس ساعات عدة، كما قطعت الدوريات الأمنية أوصال المدينة وشنت حملة مداهمات، ونادت سيارات الإسعاف للتبرع بالدم. وبث تلفزيون الإخبارية السوري صوراً لمكان التفجير في موقف للحافلات في جبلة. وأظهرت الصور عدداً من الحافلات المحترقة والمحطمة، فيما تناثرت على الأرض الإطارات وركام السيارات إلى جانب برك من الدم والأشلاء.
ولاحقا نشرت شبكات التواصل الاجتماعي فيديوهات لشخص بوجه مدمى قالت إنه «أحد المسؤولين عن التفجيرات»، وتم إلقاء القبض عليه في جبلة. وانتشرت شائعات كثيرة في المدينتين، بينها البحث عن سيارات مفخخة أخرى.
وفشلت محاولة سابقة منذ عام تقريباً لتفجير سيارة في طرطوس، كانت قادمة من حمص، وفقاً لما تداوله الإعلام. وتردد حينها أن حركة «الجبهة الإسلامية» حاولت تمريرها إلى داخل المدينة قبل أن يكتشفها الحاجز الأمني.
وخشي معلقون وسكان في المدينة من حصول فوضى نتيجة الاحتقان المتفاقم من سنوات الحرب، وصولا لمأساة أمس. وحذرت النائبة عن المدينة ديما سليمان من أن «المخطط يلي رح يصير (الذي سيحصل) بعد التفجير بطرطوس في جهات بلشت (بدأت) بخلق الفوضى».
وبالتوازي مع التحذيرات، كان مجهولون يقومون بإضرام النار في مخيم الكرنك، الذي يضم نازحين من كل البلد، ويعتبر من أكبر المخيمات في المدينة، ما دفع محافظ طرطوس المحامي صفوان أبو سعدة لإصدار بيان موجه إلى «أهالي طرطوس بعدم التعرض للإخوة الضيوف الوافدين من المحافظات»، مضيفاً أن «الإرهابيين ليسوا من الأهالي المقيمين في المحافظة، وأن التفجير هدفه خلق شرخ بين الأهالي وزرع الفتنة بين السوريين إضافة لخلق بلبلة وإحداث خرق أمني، هو الأول من نوعه وسيكون الأخير في طرطوس».
ولا يخرج كلام المسؤولين عن انطباعات السكان، والوافدين على حد سواء، وهو أن المدينة تنعم «باستقرار غير مستند لإجراءات أمنية فعالة»، ولا سيما أن شبكات الإجرام تزداد مع انتشار فوضى السلاح، وغياب صرامة الدولة السابقة، كما لانتشار الفساد، والتراخي الأمني، ناهيك عن الاعتماد على طرق الرقابة الأمنية التقليدية منذ بداية الحرب وحتى الآن، من دون تطوير يذكر.
وبعثت وزارة الخارجية خطاباً للأمم المتحدة تقول فيه إن التفجيرات تعد تصعيداً خطيراً من جانب الأنظمة المتطرفة والمعادية في الرياض وأنقرة والدوحة، مشيرة إلى تأييد السعودية وتركيا وقطر للمجموعات الإرهابية.
وبحث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيره الأميركي جون كيري هاتفياً مقترحات موسكو للقيام بعمليات مشتركة ضد المسلحين الذين لا يلتزمون بوقف إطلاق النار في سوريا.
وذكرت وزارة الخارجية الروسية، في بيان، أن «محور المباحثات تركز حول الوضع في سوريا، بما في ذلك الاقتراحات الروسية بشأن تنفيذ عمليات مشتركة ضد المجموعات الإرهابية والفصائل المسلحة غير الشرعية الأخرى الناشطة في هذه البلاد، والتي لم تنضم إلى نظام وقف إطلاق النار، فضلاً عن الاقتراحات الخاصة بمنع تنقلات المسلحين والأسلحة عبر الحدود التركية».
وأضافت ان «لافروف شدد من جديد على ضرورة أن تنفذ واشنطن، بأسرع ما يمكن، وعودها حول فصل مجموعات المعارضة السورية، التي تراهن على الولايات المتحدة، من إرهابيي تنظيم جبهة النصرة، الذين لا يشملهم نظام الهدنة».
وشدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في برقية تعزية إلى نظيره السوري بشار الأسد، على أن «هذه المأساة تدل مرة أخرى على الطابع الهمجي والمنافي للإنسانية للجماعات الإرهابية التي أطلقت الحرب الدموية ضد الشعب السوري».
وكرر استعداد موسكو لمواصلة التعاون مع الشركاء السوريين في مواجهة الخطر الإرهابي، معرباً عن قناعته بأن المجرمين الذين تلوثت أيديهم بدماء الأبرياء، لن يهربوا من الجزاء.
وكان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف قد قال إن التفجيرات التي ضربت مدناً سورية تثير قلق روسيا، وتؤكد هشاشة الأوضاع في المنطقة. وأضاف «من غير الممكن ألا تثير زيادة التوتر والنشاط الإرهابي قلقاً شديداً، ومرة أخرى يظهر ذلك هشاشة الوضع في سوريا، ويؤكد مرة أخرى ضرورة مواصلة مسار المفاوضات بخطوات حثيثة».
ووصفت الخارجية الروسية التفجيرات الدموية بأنها «تحد وقح، ليس أمام الحكومة السورية ومواطني البلاد فحسب، بل أمام المجتمع الدولي برمّته، والذي سبق له أن أعرب بوضوح عن موقفه الجماعي الداعم للوفاق الوطني السوري والسبل السياسية لحل النزاع في سوريا، بموازاة محاربة الإرهاب بلا هوادة وفق قرارات مجلس الأمن الدولي وبيانات المجموعة الدولية لدعم سوريا».
ودانت وزارة الخارجية الأميركية، في بيان، التفجيرات في جبلة وطرطوس، مشيرة إلى أن كيري حث لافروف للضغط على الحكومة السورية لوقف الضربات الجوية ضد قوات المعارضة والمدنيين في حلب وضواحي دمشق.
وأعرب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون عن «قلقه الشديد» إزاء تصعيد العنف. وقال المتحدث باسمه ستيفان دوجاريك إن بان كي مون «كرر دعوته كل أطراف النزاع في سوريا للامتناع عن مهاجمة المدنيين» والتقيد باتفاق وقف الأعمال القتالية، مطالباً جميع الدول «التحرك جماعيا وفورا وبحسم لإنهاء المأساة الجارية في سوريا».
ووصفت وزارة الخارجية الفرنسية الهجمات على طرطوس وجبلة بأنها «مشينة»، مشددة على أن العنف الذي يمارسه جميع الأطراف يجب أن يتوقف لإتاحة الفرصة لتحقيق التحول السياسي.
واعتبر «حزب الله»، في بيان، أن التفجيرات التي ضربت مدن الساحل السوري، «تتطلب وقفة واضحة وحازمة في مواجهة القوى الدولية والإقليمية الظالمة التي ما تزال تحرّض على مثل هذا النوع من الأفعال الشنيعة، بما يؤدي إلى فضحها وكشف حجم انغماسها في أعمال متعارضة مع كل القوانين الدولية والمعايير الأخلاقية التي تلتزم بها الأمم المتحضرة».