حسب اللهجة المحلية يفهم من عبارة "البضاعة البلدية" الإشارة إلى مصدرها المحلي، وعندما يتعلق الأمر بالإنتاج الغذائي، تكون صفة البلدية صفة إيجابية.
في السياسة يعاكس معنى البلدي، أي المحلي، النعت الإيجابي الذي يُعطى لغيره من البضاعة، وترافق السلبية السياسات البلدية التي تصير "ضيعاوية" وقروية، أي ضيقة ومنغلقة على ذاتها، ومحكومة بالحسابات العائلية وتوابعها. ما يعني النكوص عن شروط التقدم السياسي، الذي من مستلزماته مخاطبة الشأن العام، وتجاوز الأطر التقليدية المحلية، التي تكون معيقة، في النظرة وفي الممارسة العملية.
على الطريقة اللبنانية، وفي مناسبة الانتخابات البلدية التي لم تضع أوزارها بعد، برزت السمات المحلية، أي القروية، للمقاومات اللبنانية، أي أن فروع هذه الأخيرة، ارتدَّت إلى عدة شغلها القديمة، وارتدت أزياءها الفولكلورية المعروفة، واستخدمت شعاراتها العامة كمادة للزينة، وكوسيلة دعاية "تاريخية" لها، وحيث أمكن، أو حيث كان الأمر مؤاتياً، استعملت مواضيها المقاتلة كأدوات للترهيب الفكري والمعنوي والمادي. من جديد، وجرياً على العادة العربية المعروفة، يصوغ كل طرف استبداده أو تسلطه أو أشكال تفوقه، من ماضٍ مضى، ويكسر عنق الحاضر الذي يحاول تذكير أهل الماضي بأن تاريخهم صار ماضياً.
على الأرض، أو على مسرح المنازلة البلدية اللبنانية، نرى رجال "المقاومة اللبنانية" ونسمع خطبهم، هؤلاء لديهم تأريخهم الخاص للمقاومة، ولديهم تحديد خاص لموقع انطلاقها ولأعدائها ولأهدافها.. هؤلاء مقاومون لبنانيون حضروا وأحضرت معهم سيرتهم وأفعالهم ورمزيتهم. لذلك فإنهم يطالبون محازبيهم وجمهورهم وبيئتهم بمكافأة تتناسب وما قدموه من تضحيات.
من ضمن المقاومة اللبنانية هذه، التي عمادها اليوم "القوات اللبنانية"، يطالب "حزب الكتائب" بحصته المعلومة، لأنه "أبو المقاومة"، والمبادر الأول إلى التحرر ومن ثم القتال، ضد كل الذين هددوا الصيغة اللبنانية، أو حاولوا احتلال لبنان؟ أما "التيار الوطني الحر"، ورمزه العماد ميشال عون، ففرع مقاوم من منبت "رسمي"، كان فرعاً فصار أصلاً عندما انفرد بنداء "يا شعب لبنان العظيم"، ثم عندما طلب الاستفراد بالقرار، فخاض حرب التحرير وحرب الإلغاء، وكل ذلك تحت راية المقاومة التي تبدل أعداؤها، ولم تتبدل صيغة توظيفها في السياق العام سابقاً، وفي السياق البلدي المحلي راهنا.
ولأن المقاومات تتعايش عندما تتشابه مقاصدها، فإن المقاومة الإسلامية، وأفواج المقاومة اللبنانية، أي "أمل" و"حزب الله"، لم يبديا امتعاضاً من الذين يتخذون من المقاومة شعاراً، ولم يلتفتا إلى التناقض السياسي الذي تنطوي عليه المقولات المقاومة الأخرى، إذا ما قورنت بمقولاتهم. حزب الله يطالب بالوفاء لتضحياته، فيترجم ذلك هيمنة مباشرة على سير العملية الانتخابية، وإذا تعذرت المباشرة لجأ إلى المداورة، وهو يتعفَّف عن استخدام اللغة العائلية البلدية، ولا يترفع عن مفردات الخطاب المتدني، بل إن ماكينة الحزب لجأت، وما زالت، إلى خطاب الاتهام والتخوين والنيل من أشخاص المرشحين المناوئين بعبارات الذم المناسبة، بما لا يتوافق مع "النبل السياسي" الذي ينسبه "حزب الله" إلى مقاومته، وإلى محازبيها الأخيار. تنسج "حركة أمل" على المنوال ذاته، إنما بوتيرة أدنى وبنبرة أقل علوّاً، وهذا كتعبير عن قبولها بأنها باتت في الدرجة الثانية في ترتيب المقاومة، وأنها باتت خلف "حزب الله" على صعيد الكفاءة والقدرة والحشد والتماسك والتنظيم.
بين هذه المقاومات يسبح بقليل من الكفاءة، الحشد اليساري الذي كان صاحب المقاومة العامة إذا جاز القول، أي صاحب النظرة إلى البلد كوطن كان مقيداً بقيود الاحتلال، فلما زال هذا الأخير، استمر الوطن مكبلاً بسلاسل التخلف المجتمعي والاقتصادي، ومرتهناً لحسابات الطائفيات الطافرة والضامرة، ومواجَهاً بالأثقال الإضافية التي أتى بها أصحاب الإنجازات المقاومة من داخل كل الطوائف.
حشد اليسار الذي كان عاماً، يمارس هو الآخر ممارسة بلدية إرتكاسية، ويعتمد لذلك التذكير بتاريخه في المقاومة، ويمرّ سريعاً، إذا مرّ، على نظرته المجتمعية، ويسلك مسلكاً نفعياً تحاصصياً في الموسم البلدي، فيمتنع عن قول السياسة، ويحجم عن النطق بالفكرة، وينساق إلى شعار "المعركة التنموية". هكذا ينسى اليساريون أن كل سياسة تنمية تكون في خدمة سياسة أعلى منها، وينسى اليساريون أن خلف كل سياسة سياسة، أو أنه وفي الأصل كانت السياسة.
هو موسم بلدي آخر يختنق فيه الشأن العام، وهو "حكي قرايا" يجب الاستماع إليه، لكن الأهم الخروج بخلاصات منه، لعل الخلاصات تكون مفيدة في الوصول إلى "حكي السرايا".. الهدف دائماً السرايا، وفي سبيلها يتساجل الطائفيون، مقاومين وغير مقاومين، ومن كل الجهات.
(أحمد جابر-المدن)