لم يعد سرّا أن إدارة باراك أوباما تلعب دورا أساسيا في زعزعة الاستقرار في المنطقة كلّها، من الخليج العربي إلى شمال أفريقيا، حيث تسيء إلى واحة الاستقرار الوحيدة التي اسمها المملكة المغربية. كان موقف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من الصحراء المغربية خير دليل ذلك. وجاءت مواقف وزارة الخارجية الأميركية من حقوق الإنسان في المغرب، وهي مواقف لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالواقع، لتؤكد هذا التوجّه.
في منطقة الخليج، كان موقف مجلس الشيوخ الأميركي الذي أجمع على السماح بملاحقة المملكة العربية السعودية في قضايا مرتبطة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أكثر من مستغرب، خصوصا إذا عدنا إلى تاريخ العلاقة بين أسامة بن لادن والـ”سي. آي. إيه” في مرحلة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. إذا كان من ملاحقة في قضية الحادي عشر من سبتمبر، فإن هذه الملاحقة يجب أن تركز على الأجهزة الأميركية التي صنعت أسامة بن لادن وبالتالي “القاعدة”، في حين أن السعودية، التي تتحمّل بعض المسؤولية في مرحلة معيّنة نسّقت فيها مع الولايات المتحدة، كانت أوّل من كشف خطورة الرجل وسارعت إلى الابتعاد عنه قبل سنوات عدّة من “غزوتي نيويورك وواشنطن”.
صحيح أن موقف مجلس الشيوخ ليس كافيا ليصبح الموقف الأميركي من السعودية نهائيا، لكن الصحيح أيضا أن التحرّك على صعيد الكونغرس، ليس بعيدا عن موقف الإدارة الحالية التي تعمل على “إعادة تشكيل المنطقة”. يتظاهر باراك أوباما بالوقوف في وجه ما يسعى إليه الكونغرس، لكن الحقيقة شيء آخر. لديه حساسية ليس بعدها حساسية تجاه كلّ ما هو عربي وسنّي في المنطقة.
لا تعكس مواقف بان كي مون من قضايا المنطقة سوى رغبات الإدارة الأميركية وطموحاتها. لا يتفوّه الرجل بكلمة من دون موافقة واشنطن. المهمّ الآن تمرير الأشهر الباقية من ولاية أوباما بأقلّ مقدار من الخسائر العربية، خصوصا أنّ في أساس تفكيره التقارب مع إيران والتطبيع معها من جهة وتفتيت كلّ دولة عربية من الدول العربية من جهة أخرى.
في الخطاب، الذي ألقاه في القاهرة في بداية عهده في العام 2009، سعى الرئيس الأميركي المنتخب حديثا إلى إعادة تحديد للعلاقات بين الولايات المتحدة والمسلمين. ادّعى في ملاحظات له تلت خطابه أنّ “أساس المشكلة، في ما يتعلّق بهذا الوضع، مرتبط بأن الولايات المتحدة وبلدان الشرق الأوسط غير قادرة على التواصل بشكل فعّال”.
بعد سبع سنوات على الخطاب، يبدو المستفيد الوحيد من هذه الخلاصة النظام الدكتاتوري المستبد الذي أقامه آيات الله في طهران. كان هؤلاء موضع تركيز في استراتيجية قائمة على الإيمان القوي للرئيس بنفسه وبقدرته على التعاطي مع الآخرين وفتح حوار معهم.
ولكن من أجل أن تتقدّم هذه الاستراتيجية وأن تثبت أنّها الخط الوحيد الصحيح، كان لا بدّ من تجاهل السنّة والشيعة الذين يعارضون إيران، وحتّى التعرض لهم.
في مطلع هذه السنة، زار برلماني لبناني من الخط الوسطي واشنطن. أبلغه أكثر من مسؤول أميركي أنّه في حين يواجه حلفاء أميركا في المنطقة مشاكل مع “ذوي اللحى القصيرة”، أي مع “حزب الله” وإيران، فإنّ المشكلة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، في عهد أوباما، تعود إلى “ذوي اللحى الطويلة”، أي “داعش”. طُلب من النائب اللبناني التكيّف مع هذه الحقيقة الجديدة المتمثّلة في أن السياسة الأميركية باتت تقوم على التعاطي مع إيران والابتعاد عن السنّة. باعتماده هذا التغيير الاستراتيجي، تحوّل الرئيس الأميركي إلى أشبه بمن يحمل فزاعة، هي رجل من قشّ، ويسعى في الوقت ذاته إلى افتعال أزمة مزيّفة لا أكثر.
عمليا، استأصل أوباما الوسطية السياسية. فرض الصمت على الشرق الأوسط. ليس مطلوبا من جمهوره سماع صوت الأكثرية الشيعية التي ترفض التطرف الإسلامي أو هذا العدد الكبير من الإيرانيين المعارضين للنظام. بالنسبة إليه لا وجود للاعبين معترف بهم سوى آيات الله وامتدادهم المسمّى “حزب الله”. ليست “الحركة الخضراء”، وهي الثورة الشعبية في إيران في العام 2009، سوى ذكرى مزعجة. كذلك، أن السنّة في الخليج هم بالنسبة إليه “داعش”. لا مجال للتمييز بين هذا التنظيم الإرهابي والمملكة العربية السعودية مثلا!
هناك بديل شيعي معتدل لآيات الله و”حزب الله” في إيران ولبنان. في العراق، هناك أيضا رفض للهيمنة الإيرانية. أكثر من ذلك، أن الحكام في الخليج، بما في ذلك السعودية، يشكلون حاجزا في وجه “داعش” وفي وجه قوى التخلف داخل مجتمعاتهم. كان الاعتراف بذلك بمثابة نهاية للأزمة المزيفة التي اختلقها أوباما. يفرض الاعتراف بذلك سبب في غاية البساطة يتمثّل في أنّ “حزب الله” والنظام القائم في إيران ليسا تلك القوة التي تريد الخير للمنطقة أو أنّهما أكثر اعتدالا من السعودية ودولة الإمارات على سبيل المثال.
في الواقع، اندفع الدبلوماسيون الأميركيون منذ اليوم الأوّل لعهد أوباما نحو التفاوض مع إيران. ففي شهادة له في العام 2010 أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، اعترف وليم بيرنز مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية بأن المفاوضات مع إيران بدأت باكرا. أشار إلى “أنّ الرئيس أوباما باشر قبل سنتين تقريبا في بذل جهد لا سابق له من أجل التعاطي مع إيران”. إنّه جهد لا سابق له بالفعل، نظرا إلى أنّه لم يسبق لرئيس أميركي أن قدّم كلّ هذه التضحيات من أجل استرضاء دولة عدوّة.
جاء التحدي الأول لسياسة إدارة أوباما في مطلع الولاية الأولى. كان ذلك مع “الحركة الخضراء” التي كانت تعبيرا عن احتجاج الشعب الإيراني على تزوير الانتخابات التي أعادت محمود أحمدي نجاد إلى موقع الرئاسة. أوقفت الإدارة كلّ الدعم الذي كانت تقدّمه عبر وزارة الخارجية للصحافة الحرّة وذوي التوجه الليبرالي في إيران.
فسّر سكوت كاربنتر الموظف في وزارة الخارجية الأميركية ذلك بقوله “هناك وجهة نظر في الدوائر العليا لإدارة أوباما تقول إن برنامج دعم الديمقراطية في إيران مجرّد ورقة يمكن المقايضة بها مع النظام الإيراني”.
بعد عام، تخلّت إدارة أوباما عن العراق لإيران. ضحت بكل ما تحقق من مكاسب في العراق بفضل “الصحوات”، التي كان وراءها الجنرال بتريوس، والدماء التي بذلت والأموال التي صرفت. رضخت إدارة أوباما للخيار الإيراني القاضي بالإتيان بنوري المالكي رئيسا للوزراء مجدّدا، علما أن لائحة إياد علاوي حصلت على عدد أكبر من المقاعد من تلك التي حصلت عليها لائحة المالكي. قضت حكومة المالكي على كل أمل في العراق وقمعت السنّة وهيأت الظروف المواتية لظهور “داعش” كقوة في العراق وما يتجاوز العراق.
ما حصل في سوريا بعد ذلك، كان أكثر فظاعة. رفض أوباما أيّ استخدام للقوّة مع النظام السوري في حين تحرّك ضد معمّر القذافي. تساهل مع النظام السوري على الرغم من قتله للآلاف من أبناء شعبه وتشريده الملايين.
جاء باراك أوباما إلى البيت الأبيض وهو يبشّر بالقيم ذات الطابع التغييري التي يخلقها الحوار والتعاطي مع الآخر، خصوصا مع إيران. بعد سبع سنوات في السلطة، قدّم هذا النوع من التعاطي بطريقة فظّة على كل ما عداه. وقّع اتفاقا في شأن الملف النووي مع إيران، لكن صلب الاتفاق يبقى موضع تساؤل، في أفضل الأحوال، خصوصا أنه يضع آيات الله في وضع المسيطر على الأمور. صارت مسؤولية إظهار حسن النيّة تقع على الولايات المتحدة التي عليها البدء باكرا في تخفيف العقوبات على إيران التي لا يترتب عليها، في المقابل، الامتناع عن خرق القانون الدولي.
بات أيّ انتقاد، مهما كان ناعما، يصدر عن واشنطن يجلب تهديدات إيرانية بالتخلّي عن الاتفاق بكامله. في الجانب الآخر من المعادلة الحسابية، وضعت أميركا جانبا كلّ قوى الاعتدال أو ألغتها. لا تخرج الحملة على السعودية والمغرب، إن في واشنطن أو في الأمم المتحدة، عن هذا الإطار وهذا السياق.
يتّمت أميركاـ أوباما “الحركة الخضراء” في إيران وأصبح العراق ساحة يسرح فيها ويمرح “فيلق القدس″. أما سوريا فقد دمّرت وتركت المعارضة المعتدلة تحت رحمة ضربات إيران و”حزب الله” وروسيا. في المقابل، برز “داعش” كقوة إقليمية ووجه للتطرّف السنّي.
هناك حرب مذهبية في المنطقة تخلّت فيها الولايات المتّحدة عن حلفائها التقليديين الذين حلّت لعناتها عليهم. ردّ هؤلاء بمزيد من الشكوك في دوافع السياسة الأميركية. كلّ ما في الأمر أنّ الهاجس الأميركي المتمثل بالحوار مع إيران والتعاطي معها، جعل الأخيرة تمتلك مزيدا من النفوذ والقوّة وأدّى إلى مزيد من التطرّف الذي يذهب ضحيته المعتدلون ومجموعة الأقلّيات في الشرق الأوسط. هل باتت هذه سياسة أميركية ثابتة، أم أن أمورا كثيرة ستتغيّر مع نهاية ولاية باراك أوباما؟
العرب :خيرالله خيرالله