لم تدخل بريطانيا النادي الأوروبي إلا بعد أن غادر الجنرال شارل ديغول العمل السياسي في فرنسا. أقسم الرئيس الفرنسي الراحل ألا تدخل بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة طالما هو قابع في قصر الإليزيه في باريس. كان على أحداث عام 1968 الطلابية أن تدفع ديغول إلى الاستقالة، وبالتالي فتح الطريق واسعا أمام إطلالة بريطانيا على الأوروبيين.
اعتبر الجنرال ديغول أن بريطانيا هي “حاملة طائرات أميركية في قلب القارة الأوروبية”، وعليه فلم يكن يريد للولايات المتحدة أن يكون لها موطئ قدم بحجم بريطانيا داخل دول المجموعة الأوروبية. لم يشفع لبريطانيا أنها أَوَتْ الجنرال المتمرد على الاحتلال النازي لبلاده وكان له ولـ“جيشه الحر” ملاذ إبان الحرب العالمية الثانية، ذلك أن رجل فرنسا القوي لم يكن يريد للفكرة الفرنسية الألمانية التي كان يقودها الثنائي ديغول – أدناور أن يشوّهها الحضور الأنكلوسكسوني الأطلسي.
وما اعتبره البريطانيون إنجازا تحقق “رغم أنف” ديغول أو تمّ خلسة عقب رحيله، يقاربونه هذه الأيام بنزق وتعفف يتراوح ما بين الاستغناء والتدلل. وفيما تعتبر شعوب الأرض أن الدخول إلى النادي الأوروبي (الذي تنتظر تركيا على أبوابه منذ عقود) هو امتياز أنعم الأوروبيون على أنفسهم به، يذهب الشعب البريطاني إلى استفتاء في 23 من شهر يونيو المقبل للاختيار ما بين الطلاق والزواج المشروط، ذلك أن رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون أتاهم، بعد مفاوضات معقدة مع الشركاء الأوروبيين، باتفاق يجعل لبلدهم “وضعا خاصا” في قلب الاتحاد الأوروبي، لعله بذلك ينزع كأسا مرّة كان وراء إعدادها دون أي مسوغ.
لم يكن كاميرون مضطرا إلى فتح بيت النحل والعبث بعسله حتى يكافح هذه الأيام لإقفال البيت وحماية نفسه وبلده من لسع عشوائي. لم تر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ضرورة لتنظيم الاستفتاء من الأصل، والذي لم يعد شأنا محليا بريطانيا، بل بات معضلة أوروبية دولية تهدد بانقلاب في المشهد الدولي العام. ذهب سيّد الأبيض الرئيس باراك أوباما إلى قلب لندن محذّرا البريطانيين من مخاطر الخروج من الاتحاد الأوروبي على أمن واقتصاد واستقرار جزيرتهم. وما بين المستشارة الألمانية والرئيس الأميركي تراكمت مواقف أوروبية وأطلسية، وأخرى ينفخ بها البنك وصندوق النقد الدولي، تحذر من تصدّعات كبرى ستصيب بريطانيا وأوروبا ومستقبل الاستقرار الدولي برمته. حتى أن بيان اجتمـاع قمة العشرين في فبراير المـاضي حذر من أن خروج بريطانيا المحتمل من الاتحاد سيشكل “صدمة للاقتصاد العالمي”.
في فرنسا، وحين لاحت إمكانات انتخاب جان ماري لوبن، زعيم حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، رئيسا للبلاد ضد المرشح الديغولي جاك شيراك عام 2002، اتحد اليمين التقليدي واليسار التقليدي، باشتراكييه وشيوعييه لانتخاب شيراك الخصم وإبعاد لوبن عن أبواب القصر الرئاسي. أُطلق على ذلك في فرنسا اسم “الكتلة الجمهورية” في الوقوف ضد النزوع إلى التطرف في طبعاته العنصرية الفاشية. ليست هي الحال كذلك في بريطانيا هذه الأيام، رغم أن الرموز الداعية إلى الانفصال عن أوروبا تستند على مناخ معارض لتشريعات أوروبية يتأفف من فتح حدود المملكة المتحدة أمام الأوروبيين، لا سيما أولئك الجدد من أوروبا الشرقية، أكثر من ضيقهم من تلك غير الأوروبية التي يسهل التعامل معها وتقزيم حضورها، وتستخدم حججا وشعارات هي أقرب في طروحاتها إلى طروحات اليمين الأوروبي المتطرف (نايجل فراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني، مثالا). ومع ذلك فإن تيارا يشبه “الكتلة الجمهورية” في فرنسا يخترق كافة الأحزاب والتيارات البريطانية ينشط لتجنيب بريطانيا مزالق الخروج من الاتحاد الأوروبي.
أخرج ساسة بريطانيا المارد من قمقمه وراح الجدل ينخر المجتمع والنخب والأحزاب وحتى العائلة البريطانية الواحدة. كشفت دراسة مؤخرا أن أهل المدن والشريحة الشبابية هم مع البقاء في الاتحاد، فيما أهل الريف والشريحة الأكبر عمرا هم مع الخروج منه. بدا أن مزاج الناخبين هو من يتلاعب بأعصاب السياسيين، ذلك أن استطلاعات الرأي تعطي الفريقين نسبا متقاربة بين البقاء أو الرحيل، على نحو يذكّر البريطانيين بأجواء الاستفتاء على استقلال إسكتلندا عن عرش الملكة إليزابيث عام 2014، من حيث أن لندن كانت واثقة من بقاء الإسكتلنديين داخل بريطانيا إلى أن راحت الاستطلاعات تنذر بعظائم الأمور، ما اضطر ساسة العاصمة وأحزابها ومؤسساتها وإعلامها وبنوكها إلى استنفار كافة المواهب التخويفية والاسترضائية، والتي أدت بالنهاية إلى سقوط الانفصال.
ولأن الحدث “تاريخي”، على ما يوصف في بريطانيا، فإن أوروبيي بريطانيا وخصومهم يتنافسون في قذف فضائل خيارهم ومصائب الخيار الآخر، بشكل يقترب من الهوليوودية في عرض وتعظيم ثنائية الخير والشر. تتدافع تقارير المهوّلين من “كابوس” الخروج من أوروبا محذّرة من انهيار المنظومة الأمنية (حسب مسؤولين سابقين في الـ“أم آي 5” والـ“أم آي 6”) وتراجع أسعار الجنيه الإسترليني (بأكثر من 20 في المئة) وانهيار في القطاعات الاقتصادية والصناعية في بريطانيا (قدرت الخسائر بنحو 224 مليار جنيه إسترليني). وتتحدث تقارير أخرى عن تهديدات تفيض خارج البلد لتنال ربما من بقاء الاتحاد الأوروبي برمته، ذلك أن الكتلة التي صمدت أمام أزمات اليونان وأسبانيا والبرتغال وأيسلندا قد لا تحتمل خروج دولة أوروبية كبرى بحجم بريطانيا. ومع أن خارطة الاحتمالات ما زالت مفتوحة، إلا أن تلويح عتاة المنادين بالخروج من “أوروبا” بأنهم سيطالبون باستفتاء آخر في حال جاءت نتائج استحقاق يونيو لصالح البقاء، يعكس شعورهم بصعوبة تحقيق أمانيهم وربما استحالتها.
يعيش البريطانيون لحظة فارقة في تاريخهم الحديث في خوض غمار الاستفتاء المسمى “بريكسيت” (اختصار لـ“بريتيش إكزيت”)، ربما بسبـب انقسام حزب المحافظين الحاكم حول المسألة الأوروبية (أكثر من 100 من نواب الحزب في البرلمان البالغ عددهم 330 نائبا يؤيدون الخروج من الاتحاد الأوروبي)، على النحو الذي اضطر ديفيد كاميرون إلى اللجوء لاستفتاء، لا يمكنه إهماله، تاركا الخيار لأعضاء حزبه تجنبا لموجة استقالات محتملة. يساند كاميرون (ووزراء آخرون) خيار البقاء في الاتحاد ويعتبر العكس “قفزة في الظلام”، فيما وزراء من الحزب داخل حكومته يؤيدون الخروج من أوروبا، وينشطون، بشكل سريالي، من داخل نفس الحكومة، لإخراج بلادهم من “براثن” المفوضية الأوروبية في بروكسل.
ويذهب عمدة لندن السابق المحافظ بوريس جونسون إلى الدعوة إلى الخروج من “السجن” مشبّها الاتحاد الأوروبي بما نزع إليه سابقا هتلر ونابليون في القارة الأوروبية. يتقاطع كاميرون المحافظ وخصمه العمالي يساري الهوى جيريمي كوربن في نقطة الدفاع عن بريطانيا الأوروبية، على الرغم من تصريح الأخير بأنه لن يظهر مع الأول في أي حملة مؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي. ولا يرى تيم فارون زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار المعارض أن جهود زعيم العمال الأوروبية جدية، ويدعو كل الأحزاب إلى تشكيل حلف للدفاع عن بريطانيا داخل أوروبا، فيما يتهم الزعيم السابق للحزب، نيك كليغ، أعضاء من حزب المحافظين وحزب الاستقلال البريطاني بأنهم يسعون إلى فصل البلد عن “أكبر سوق في العالم”.
يتطوّع زعماء أوروبا والأطلسي والإدارة الأميركية لتقديم الدعم لحليفهم كاميرون في لندن. بيد أن تحذيرات صدرت من مغبّة أن يعتبر ذلك تدخلا قد يأتي بمردود عكسي لدى الناخب البريطاني. في المشهد عزف مضطرب لإخراج السيمفونية المناسبة التي تمنع بريطانيا من الإبحار خارج المناطق “الآمنة”، لكن تعليق الأمر على مزاج البريطانيين والاتكال على تخبط أذواقهم، يجعلان من عبث العازفين وتضارب إيقاعاتهم تمرينا سيصمّ الآذان حتى موعد إجراء الاستفتاء العتيد.
العرب :محمد قواص