إنتهت مرحلتين من الإنتخابات البلدية في لبنان ولم تنته بعد التحليلات حول النتائج والمفاجآت التي أنتجتها والتي شكلت صدمة للجميع لأنها لم تكن على قدر التوقعات.
فبدءا من بيروت إلى بعلبك وجونية وصولا إلى زحلة، وهي المناطق التي شهدت منافسة حقيقية وسجلت اللوائح المنافسة للأحزاب نتائج مبهرة، كان الواقع يشي بأمور إستثنائية. فبلغة الأرقام وعلى قاعدة القانون الإنتخابي الملائم لمعايير الديمقراطية القائم على النسبية، كانت النتائج والأرقام الحالية لتقلب المعادلة في الحياة السياسية بلبنان، ولكن هذا ما لم يحصل بسبب طبيعة القانون الإنتخابي الحالي، فإكتفت الأرقام بإعطاء ضوء أحمر كإنذار للأحزاب بأن هناك ردة فعل شعبية سلبية إتجاه طريقة حكمهم وهذا ما عبر عنه الرئيس نبيه بري بالأمس على طاولة الحوار بأن نتائج الإنتخابات ردة فعل على سيئاتنا.
ولكن لغة الأمر الواقع وهي اللغة المعترف بها بعالم السياسة تشير إلى أن الأحزاب إستطاعت حتى الآن تجاوز المرحلتين بنجاح وأعادت التحكم بأغلبية المجالس البلدية في بيروت والبقاع والجبل مستفيدة من التجييش الطائفي والمناطقي وحتى من الصراع الإقليمي الحاصل ما إنعكس خوفا لدى المواطنين وهي أطروحات غير طبيعية في هكذا إنتخابات لكنها ما زالت تثمر وتسمن من جوع.
وكثيرة هي الإنتقادات التي توجه إلى هذه الإنتخابات وإدارتها من القانون الإنتخابي الأكثري المعتمد والرشاوى والفضائح الموثقة بالفيديوهات والصور وصولا إلى رأس هرم إدارتها وهو وزير الداخلية المحسوب على طرف سياسي معين في البلاد الذي يجب أن يكون شخص حيادي لا يمت بصلة للأطراف السياسية.
أضف أن تجزئة الإنتخابات على أربعة مراحل وعدم إختصارها بيوم واحد يضعف الثقة بنزاهة وشفافية الإنتخابات خصوصا أن تجربة اليوم الواحد حصلت سابقا في لبنان ونجحت.
وإلى الآن يبدو المشهد السياسي حائرا بين تفاؤل يبديه البعض بنتائج اللوائح المعارضة للأحزاب وتشاؤم حول مدى اللاوعي السياسي الذي أظهره الشعب اللبناني من خلال تجديده للثقة بالأحزاب.
وما بين الشعورين شعرة معاوية لم تقطع بعد.
فهذه الإنتخابات سجلت نمو حالة الغضب لدى الشعب اللبناني في بعض المناطق وقد لعبت أزمة النفايات والحراك المدني دوره في تأجيجها خصوصا في بيروت، ولكن لا يمكننا الغلو في التفاؤل فبعض المناطق سجلت تنافس بين قوى سياسية سابقة وحالية وكلاهما لهما تجارب فاشلة في الحكم والإدارة ومناطق أخرى لعبت التوازنات السياسية دورها كإعطاء بعض الأحزاب أصواتها للوائح مضادة أخرى من أجل تسجيل مواقف سياسية.
وهناك مناطق تشهد إنقلابات وإنشقاقات داخل الحزب الواحد لحسابات عائلية ومناطقية وليست إنمائية وهذه الظاهرة منتشرة بكثافة في الجنوب وحصلت في البقاع.
ولعل المبكي المضحك بل المخجل هو القوة التجييرية لبعض القوى السياسية المتهمة علنا وبالدليل بالفساد كقدرة الوزير فتوش على تجيير حوالي 7000 صوت في زحلة وهو متهم بالفساد وملف الكسارات وهو رقم ضخم يعبر عن مدى الضعف الذي أصاب الوعي السياسي للمواطن اللبناني وتجربة فتوش ما هي إلا مثال مصغر عن حالة اللبناني في أي مكان.
فهكذا أرقام تعبر عن حالة ضياع بل حالة تماشي مع الفساد بات يؤمن اللبناني بأنها قدره ومصيره فبات يعتبر أن الفساد جزء من يومياته وثقافته، وهي محنة بحجم الوطن لا تبشر بالغد الأفضل والموعود.
وليست جونية ببعيدة عن ما حصل في زحلة، وإن كانت المعركة في عاصمة الموارنة خيضت بعناوين مختلفة أهمها كسر الآخر ونتج عنها تأكيد المؤكد بأن شعار 87% من المسيحيين يمثلهم ميشال عون وسمير جعجع سقط، وهو شعار وعنوان خيضت لأجله معركة جونية الإنتخابية ولا يمت بصلة للإنماء والنهوض والتنمية للمدينة.
وفي بيروت ولو إختلف المشهد قليلا وأخذ نوعا ما بعدا إنمائيا ولكن لا يمكن أن نغفل عن أن بعض من أعطى أصواته للائحة المجتمع المدني ضد لائحة الأحزاب هم بعض الأحزاب لحسابات سياسية لإسقاط الحريري في بيروت.
والمشهد في بعلبك أخذ بعدا عائليا وعشائريا تحت غطاء المجتمع المدني، فهم متفقون سياسيا وعقائديا مع الثنائية ولكنهم مختلفين على حصص التمثيل.
لذلك وجود حالة مناهضة للأحزاب الحاكمة في لبنان متوقفة على شجاعة مريديها بأن يصرحوا بإختلافهم السياسي مع هذه الأحزاب بالدرجة الأولى لا فقط الإنمائي بسبب أن هذه الوسيلة للتغيير باتت ضعيفة.
وعليه، يبدو أن المرحلتين المقبلتين لن تشهدا مفاجآت حقيقية ومدوية أكثر مما حصل في المرحلتين السابقتين، ما يعكس أزمة حقيقية يعاني منها المجتمع المدني وفي قدرته على خلق قيادات وازنة ذات برامج واعدة وما يعكس أيضا نجاحا مستمرا للأحزاب في قدرتها على تطويع هذا المجتمع لحساباتها وإختراقه بحالات وظواهر قيادية تعمل لأجنداتها.
وسيبقى اللبناني البسيط لست سنوات مقبلة يصرخ ويأن ويشكو من الحرمان مضيعا عليه فرصة التغيير الحقيقية خلف الستارة في صندوقة الإنتخابات.