وجهت الأزمة الأمنية الحادّة القائمة حاليا في العراق ضربة جديدة لهيبة الدولة العراقية وقواتها المسلّحة، مكرّسة في المقابل تغوّل الميليشيات الشيعية وبروزها كقوى تنازع الدولة سلطاتها، وتشاركها ـ بل تتفوّق عليها ـ في امتلاك السلاح واستخدام القوّة لفرض ما تعتبره “القانون”.
وكانت الميليشيات الشيعية التي يقدّر عددها بحوالي مئة، والتي كانت إيران قد ساهمت في تشكيل أغلبها وتسليحه لتكون أذرعها المسلّحة في عراق ما بعد الغزو الأميركي، قد تلقّت دفعة كبيرة من خلال مشاركتها في الحرب ضد تنظيم داعش تحت لواء ما يعرف بالحشد الشعبي، وهو عبارة عن جيش طائفي رديف للقوات المسلّحة تشكل على عجل استنادا إلى فتوى دينية من المرجع الشيعي علي السيستاني، وحاز على اعتراف الدولة وبات يتلقى دعمها بالمال والسلاح.
ورغم أن الحشد تابع شكليا لرئاسة الوزراء العراقية، إلاّ أنّ مكوناته تدين بولاء كامل لقادتها الذين هم في نفس الوقت زعماء سياسيون ودينيون يتحكمون في الميليشيات ويحدّدون دورها في الحرب ضدّ داعش ويستدعونها من الجبهات للقيام بمهام أخرى تتصل بحماية أمن “الزعماء”، وحتى بتصفية الحسابات مع خصوم سياسيين من داخل العائلة السياسية الشيعية وخارجها.
وفي وقت أظهرت فيه القوات الحكومية العراقية بكلّ عدّتها وعديدها عجزا فادحا عن حماية عاصمة البلاد من اختراقات تنظيم داعش وهجماته الانتحارية التي أوقعت خلال أيام قليلة ضحايا بالمئات في صفوف المدنيين، سارعت الميليشيات الشيعية لعرض نفسها بديلا عن القوات المسلّحة النظامية في حماية مناطق نفوذها ومعاقل أنصارها في بغداد.
وبعد سلسلة التفجيرات الانتحارية التي تركّزت بشكل كبير في مدينة الصدر المعقل الأساسي لأنصار وأتباع التيار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، بادر التيار إلى نشر الميليشيا التابعة له المسماة “سرايا السلام” التي باشرت العمل الأمني بشكل اعتيادي فيما انزوت القوات الحكومة تجنّبا لأي صدام محتمل مع السرايا.
وجاء ذلك بعد حملة إعلامية شرسة شنّها قادة التيار، بمن فيهم مقتدى الصدر، على القوات الحكومية، متهمين إياها بالعجز عن حماية أمن المواطنين، وملمّحين إلى تواطؤ من قبل الأجهزة الأمنية ضدّ أتباع الصدر كعقاب لهم على قيادتهم موجة احتجاجات ضدّ الحكومة التي يقودها خصوم سياسيون للصدريين.
ووصف الصدر التفجيرات الدامية التي ضربت بغداد خلال الأيام الماضية بأنها أوضح دليل على أن الحكومة باتت عاجزة عن حماية الناس وتوفير الأمن لهم.
وانتشر مقاتلون يرتدون ملابس مموهة لا تختلف عن أزياء القوات والجيوش النظامية، ينتمون لسريا السلام التابعة للتيار الصدري في مدينة الصدر على متن سيارات نقل تحمل مدافع رشاشة حيث منعوا وقوف السيارات وأحكموا سيطرتهم على تقاطعات الطرق الرئيسية. وأكدت وكالة رويترز أن هؤلاء المقاتلين كانوا أكثر عددا من قوات الأمن الحكومية.
ونصب المقاتلون التابعون للصدر خياما أمام أسواق قامت فيها سيدات بتفتيش النساء من الزبائن بعدما كشفت تحقيقات أولية أن امراة هي التي نفذت التفجير الذي هزّ الثلاثاء حي الشعب، موقعا المئات من الضحايا بين قتلى وجرحى.
ويتجاور حضور الميليشيا الصدرية في بغداد مع حضور ميليشيات أخرى تابعة لتيارات منافسة للصدريين، مثل سرايا الخراساني التي ركّزت وجودها ببغداد قرب المنطقة الخضراء التي تضم أهم المقرات الحكومية والسفارات الأجنبية، لحمايتها –ليس من هجمات داعش- ولكن من أنصار التيار الصدري الذين سبق أن اقتحموها في الثلاثين من أبريل الماضي، في إطار ما يسمونه احتجاجات مطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد.
ومن شأن الصراع المحتمل بين الفصائل والميليشيات الشيعية في العراق، أن يدخل دوامة العنف العراقية منعرجا جديدا يقود الدولة المترنحة تحت وقع الأزمات المتعدّدة السياسية والأمنية والاقتصادية إلى مربع الفشل التام.
وغير بعيد عن استخدام الميليشيات في صراع الكتل السياسية المتناحرة على المكاسب المادية والمناصب السياسية وتصفية الحسابات في ما بينها، وفي مظهر آخر لتغوّل الميليشيات في العراق، أعلنت ميليشيا كتائب حزب الله إصدار أوامر لمقاتليها المنتشرين على محاور الطرق ومداخل المدن، ضمن دوريات ونقاط تفتيش تقيمها الميليشيا، بملاحقة ومتابعة “أرتال اتحاد القوى”، في إشارة إلى السيارات التي تحمل كبار المسؤولين والقادة في ائتلاف اتحاد القوى العراقية المكوّن من تيارات سياسية تعلن نفسها ممثلة لسنّة العراق.
وجاء الإعلان على لسان المتحدث العسكري باسم الكتائب جعفر الحسيني خلال تصريح صحافي ردّا على بيان كان اتحاد القوى أصدره هاجم فيه الكتائب، متهما إياها باختطاف ألفي مواطن من أهالي محافظة الأنبار.
ولم يبيّن الحسيني، “السند القانوني” الذي يخوّل للميليشيا التي يتحدّث باسمها أن تطارد الأشخاص وتحتجزهم، إذ أنّ ذلك أمر اعتيادي في العراق مفروض كأمر واقع لا يحتاج إلى تبرير.
العرب