أول ما يشي به التركيب اللغوي "ولاية الفقيه"، بأولوية السياسة على الدين، ذلك أنّ الولي الفقيه، هو وليُّ أمر المسلمين، ولا يلي أمرهم إلاّ أمير، حسب قول الإمام علي بن أبي طالب: لا بُدّ لكم من أمير ،براً كان أو فاجراً، ولكن الولي الفقيه وقد دان له الأمر والملك والسلطان، عاد ليتعالى على السياسة، وينأى بنفسه عن خبائثها، بئست الإمارة، كما رُوي عن الرسول الأعظم، وبئست الدنيا وما فيها أمام رضوان الله وجنّاته، ونعيم لُقياه، والولي الفقيه، مخزن العلم والهداية، والسلطان بؤرة الغواية والضلال، لذا يقتصر دور الولي في الإرشاد الروحي، فيغدو "مرشد الثورة"، ولولا هداية المرشد لضلّ السلطان وبطانته وشعبه، وقد يمتدّ الضلال إلى الأمة جمعاء، لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض.
في المجال الشيعي:
يبقى الولي الفقيه، مفهوم ،أبدعه وطبّقهُ الإمام الراحل روح الله الخميني، وتنحصر إبداعية هذا المفهوم في كونه أخرج حالة الإمامة الروحية الموروثة عن نسل الإمام الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب، من مرحلة الكمون، إلى مرحلة الظهور ، أو من القوة إلى الفعل حسب مقولة أرسطو الشهيرة. وقد ركّزت ولاية الفقيه على أن لا بدّ لكم (أيّها الشيعة) من وصيٍّ أو إمام، أو نائب إمام، أو فليكن الولي الفقيه، الذي يُخرج الأمة من سُباتها،ويسدّ مسدّ الفراغ الهائل الذي تركه غياب الإمام الثاني عشر، ويمنح شرعية لاهوتية ضرورية لرجال الدين كي يكونوا قوّامين على رجال السياسة والملك.
الولاية في المجال السياسي العسكري:
برزت في تاريخنا المعاصر حالات شبيهة، حيث تتمركز السلطة والإرشاد والهداية بشخص فرد واحد مستبد، من نماذجها صدام حسين في العراق، وحافظ الأسد في سوريا، إلاّ أنّ خير تمثيل لهذه الحالة، كان الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، فقد نأى بنفسه عن السلطة( أو هكذا كان يُصوّر نفسه ويقدمها لجمهوره)، فهو ليس رئيس الجماهيرية( الإسم الذي اشتقّه من الجماهير)، ولا رئيس وزرائها، ولا يتولّى أي منصب عام، كان يُفضّل أن يُطلق عليه لقب قائد الثورة، كان يتبجح بأنّه قاد ثورة الفاتح انتصارا للجماهير، وانتزع السلطة والثروة من النظام الملكي ووضعها بين يدي الشعب الليبي، وهو لا يملك سلطة ولا مال، ولا نفوذ، هو مرشد الثورة وحارسها، والأمين عليها( وتاليا وسّع الأمانة ليصبح أمين القومية العربية). إلاّ أنّه خلف هذه المزاعم كانت تجري كل موبقات الفساد والاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة.
الجماهير وسلطتها البديلة في إيران:
هناك اعتقاد عام وشائع بأنّ هيبة الإمام الخميني ونظرية الولي الفقيه هما اللتان اسّستا السلطة البديلة في إيران بعد سقوط نظام الشاه، إلاّ أنّ التاريخ وتجارب الأمم تعلمنا أنّ السلطات البديلة لا يخترعها المثقفون ولا رجال الدين، الجماهير هي التي تُنشئ سلطات بديلة للأنظمة القائمة، فالخلافة الإسلامية لم يخترعها أبو بكر الصديق، ولا عمر بن الخطاب، كان المهاجرون والأنصار ومن ورائهم قبيلة قريش هم الدعامة الأساسية لقيام سلطة الخلافة، وفي العصر الحديث كانت الثورة الفرنسية أبرز مثال،فلو أنّ الشعب الفرنسي في لحظة الثورة، لم يجد أشكالا مؤسسية مختلفة عن الملكية، لكانت كل كتابات فولتير وروسّو بلا معنى، وفي روسيا الثورة الحمراء، ليس لينين هو الذي اخترع السوفيات، الخيال الثوري للشعب الروسي في لحظة انتفاضة، نظّم نفسه بشكل مختلف عن سلطة القيصر، وجاء لينين بعد ذلك ونظّر لها.
وفي إيران، قامت سلطة على أنقاض الملكية، إلاّ أنّها ترتكز على تراث تاريخي راسخ في العمل المؤسساتي الذي تقوم عليه ركائز الدولة من أيام الاكاسرة حتى يومنا هذا،وحتى شعار الجمهورية الإسلامية هو نموذج أوروبي، فالجمهورية ليست نموذجا إسلامياً، الشعب الإيراني بتضحياته وشهدائه وانتفاضته هو من أقام السلطة البديلة في إيران.
السياسي في حضن الولي..
عندما تترسّخ سلطة الولي الفقيه، بوجهيها الديني أو العسكري، يصبح السياسي لا حول ولا طول له، كان القذافي يقوم بتغيير رئيس اللجنة الشعبية العامة( رئيس الوزراء) الغُفل، كما يغيير بدلته أو هندامه العجيب الغريب، وفي إيران، رئيس الجمهورية بين الولي الفقيه والحرس الثوري، يبدو كأنّه ظل رئيس، أو، بأفضل الظروف هو لاجئ سياسي في حضن الولي. ويبقى أنّ الله غالبُ أمره، من قبلُ ومن بعد.