بدأ غُبار المعركة الانتخابية في محافظة جبل لبنان ينجلي تدريجاً، لتكشفَ نتائجها دلالات سياسية عدة، خصوصاً في منطقة المتن، حيث كرّسَت مجدّداً زعامة نائب رئيس مجلس الوزراء السابق النائب ميشال المر في «قلعته»، فيما أثبتَت بما لا يقبل الجدل عدم ترجمة التحالف بين «التيّار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» على الأرض بلدياً. في وقتٍ أجمعَت الأوساط السياسية على التنويه بأداء وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق السياسي والأمني واللوجستي والإداري في إدارة العمليات الانتخابية بنجاحٍ قلَّ نظيرُه، إلى درجة أنّ أياً من القوى السياسية لم تسجّل أيّ مأخَذ أو اعتراض على هذا الأداء الذي لقيَ أيضاً ثناءً في مختلف الأوساط الديبلوماسية. تواصَلت أمس القراءات لنتائج الانتخابات البلدية في محافظة جبل لبنان، وفي وقتٍ لم يسجّل أيّ نشاط سياسي ملحوظ خارج هذه القراءات، ارتفعَت وتيرة الاستعدادات للجولات الانتخابية اللاحقة في الجنوب الأحد المقبل، والشمال في الأحد التالي.

في نتائج المتن

وفي هذا الإطار توقّفت مصادر سياسية عند النتائج التي أفرزتها الانتخابات البلدية في المتن، وقالت لـ»الجمهورية»: «عندما تقيم أحزاب مسيحية كبرى كـ«التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» ثنائية معيّنة، في محاولةٍ لجمعِ أكبر نسبة ممكنة من التمثيل المسيحي، أو في محاولة للقول إنّها تمثّل الأكثرية المسيحية، وقد بَذلت جهداً كبيراً على مستوى المناطق اللبنانية كافة لتظهير معادلة تمثيلِ مسيحي جديد، فهذا المسعى سَقط في منطقة المتن من خلال النتائج التي أحرَزها النائب ميشال المر.

ولقد كان واضحاً جداً أنّ ما جرى في المتن لم يحصل في أيّ منطقة أخرى، والواقع كان مختلفاً تماماً، فالمتن من خلال طرَف واحد هو ميشال المر، نجَح في مواجهة ثنائية مشتركة قواتية ـ عونية، ونجح في الوقت نفسه في مواجهة حزب قديم تقليدي، صحيح أنّها لم تكن مواجهة مباشرة شاملة، إنّما على الأقلّ كانت مواجهات موضعية معيّنة.

لقد تمكّنَ مِن خوض معارك على جبهات متعدّدة، في حين أنّ أحزاباً كبرى لم تستطع خوض معارك مشابهة. فـ»القواتيون» و»العونيون» اضطرّوا إلى الوجود معاً في معظم المناطق، وفي الأماكن التي لم يستطيعوا فيها ذلك لم يخوضوا معاركَ، في الوقت الذي كانت لميشال المر القدرة التكتيكية على أن يخوض في اماكن معيّنة معارك في مواجهة هذين الفريقين معاً، ومعارك في مواجهة أحدهما، ومعارك في مواجهة فريق ثالث هو حزب الكتائب.

وبالتالي فإنّ الأحزاب الكبرى تفتش اليوم كيف ستضع يدَها من خلال تحالفات معيّنة، على اتّحاد بلديات كسروان أو اتّحاد بلديات جبَيل أوغيره، في الوقت الذي كان المر يقول عند الرابعة عصراً وقبَيل إقفال صناديق الاقتراع إنّه فازَ بما يكفي من البلديات لكي يربح اتحاد بلديات المتن، في حين أنّ أحزاباً كبرى وتحالفات على مستوى كبير جداً لا تزال صورة اتّحاد البلديات غيرَ واضحة حتى الآن أمامها وتحاول تركيبَها بعضها مع بعض، ما يؤكّد أنّ هذا الرجل هو فعلاً ظاهرة غريبة. فحتى عند الدروز لم يستطِع النائب وليد جنبلاط أو النائب طلال أرسلان في الشوف وعاليه تحقيقَ النتائج التي استطاع المر تحقيقَها.

فجنبلاط خرج من المعركة في الشوف وعالية مهشّماً، بمعزل عن النتائج التي حقّقها، في الوقت الذي بدا المر مرتاحاً جداً إلى المعركة وحتى قبل حصولها، وذلك على رغم الموجة الحزبية التي كانت تقول إنّها «ستقلب معادلات وتغيّر وَجه التمثيل الحقيقي». لكن المر نجَح في منطقة المتن في أن يثبتَ حالةً سياسية صَعُبَ على الأحزاب منفردةً ومجتمعةً أن تلغيَها أو أن تقيم مثيلاً لها».

وأضافت هذه المصادر: «مِن الواضح أنّ التحالف المسيحي ـ المسيحي لم يترجَم في كلّ الأمكنة، وحتى في الأمكنة التي تُرجم فيها كبلدة دير القمر، فقد تمكّن النائب دوري شمعون من الفوز بستّة مقاعد من أصل 18 مقعداً، فقد اجتمعَ حزبان على كسر شمعون وفازا بـ 12 مقعداً، أي نال لكلّ طرف 6 مقاعد، لكنّ شمعون استطاع انتزاع 6 مقاعد، وبالتالي فإنّ حجمَه كـ«حزب وطنيين أحرار» هو بمقدار حجم كلّ مِن «القوات» و«التيار الوطني الحر».

ولذا فإنّ التحالف المسيحي ـ المسيحي لم يؤمّن لهما النتيجة التي كانا يريدانها، والحسابات على الورقة والقلم هي غير حسابات الأرض. الناس كانوا يقولون لهما إنّهم معهما في الخط السياسي العام لكنْ «بَس مِش دِبنا فيكم وخلِصتو منّا».

فالخطأ الأساسي الذي ارتكباه هو أنّهما اعتقدا أنّه إذا اجتمع طرَفان من أحجام معيّنة فإنّ بقيّة الأحجام الأخرى ستُلغى، فيما أظهرت الأمور عكس ذلك، والتحالف الذي أقاماه شدَّ عصبَ القيادات الأخرى وسمحَ لها بالحصول على تعاطف كبير لدى أوساط الرأي العام وتَسَبّب بردّة فعل عكسية عليهما ».

وتوقّفَت المصادر عند نتائج انتخابات جونية، واعتبَرت «أنّ ما حصل شكّل انتصاراً للائحة جوان حبيش البلدية وليس انتصاراً لمعركة ميشال عون الرئاسية، وقد أثبتَت النتيجة هذا الموضوع بنحو واضح جداً، بدليل أنّ لائحة «كرامة جونية» اختُرقت بأربعة مقاعد، والأطراف الأربعة التي خاضت معركتَها فازت بفارق نحو 50 صوتاً، وبالتالي لا يستطيع عون أن يقول اليوم إنّه هو ربح المعركة بل هو كان أحدَ أطرافها».

حمادة

وقال النائب مروان حمادة لـ«الجمهورية»: «ربّما كانت انتخابات المتن الأكثر رمزية وتعبيراً عن المناخ الحقيقي للرأي العام اللبناني. بغَضّ النظر عن الحزبيات، اقترَع أهالي البلدات والقرى المتنية لمن اعتبروه الأبَ الروحي والعملي لنهضة منطقتهم وخدمة أهلهم، والتعبير عن مناخهم الوطني الجامع الذي طالما تمثّلَ في شخص الرئيس ميشال المر ومواقفِه.

فعند العمارة، بل القلعة، اصطدمت وسَقطت كلّ المزاعم وكلّ محاولات زعزعة إرثِ لم يكن يدّعي يوماً الوراثية، بل حملَ على مرّ العقود الهموم والمشاريع»..

وختمَ حمادة:»... حاوَلوا إلغاءَه، فدحرَهم».

سعَيد

وأجرى منسّق الأمانة العامة لقوى 14 آذار النائب السابق الدكتور فارس سعيد قراءةً لانتخابات كسروان وجبيل والمتن، وقال لـ»الجمهورية»: «إنّ العلامة الفارقة التي بَرزت خلال مرحلة الانتخابات في جبل لبنان هي الجرأة الشيعية التي بَرزت في بعض القرى الشيعية والقرى المختلطة في قضاء جبيل في مواجهة «حزب الله»، وبالتحديد في قرية مشّان والحصون ومغيري وأفقا ولاسا، وهذه الجرأة الشيعية قد تكون لها معانٍ سياسية مستقبلية، اليوم نضعها فقط في الإطار البلدي والأهلي، إنّما العلامة الفارقة أنّها لم تكن موجودة في خلال انتخابات 2009 ولا في انتخابات 2010، واليوم أصبحَت موجودة، أي البيئة الشيعية التي كانت مهيمنة على الصوت الشيعي أصبحَت اليوم منقسمة بين فريقين: العائلات المستقلّة من جهة، و«حزب الله» من جهة أخرى».

وأضاف سعَيد: «إنّ الطابع الأهلي التقليدي العائلي العفوي تجاوَز الطابعَ التنظيمي الحزبي على مساحة جبل لبنان، حتى في جونية، جاء الطابع السياسي من خلال زيارة العماد عون إلى المدينة، إنّما إذا دقّقنا في ما جرى في جونية نرى بالملموس وبنحوٍ واضح أنّ العائلات والتصويت العفوي والأهلي كان سيّد الموقف، وليس تصويت التيارات السياسية والحزبية، لا بل على العكس كانت هناك عفوية أهلية وعائلية تجاوزَت الإرادة السياسية».

وتابَع سعيد: «لقد برز أيضاً أنّ المال مهمّ جداً، لسوء الحظ، في العملية الانتخابية، إذ إنّ هناك لوائح كانت تتمتّع بماكينات انتخابية وازنة، ولوائح أخرى كانت لوائح عفوية تتمتّع فقط بعفوية اندفاعها الأهلي».

وأضاف: «أمّا في ما يتعلق بانتخابات المتن فقد جاءت نتائج صناديق الاقتراع لتؤكّد حضور الرئيس ميشال المر بشكل وازن على مساحة القضاء وتؤكّد أنّه لا يزال شخصية سياسية ذات وزن انتخابي. وفي النهاية أعتقد أنّ الانتخابات البلدية أصبحَت وراءنا، وقد أسقط إجراؤها الحجّة الأمنية التي كانت يتستّر وراءَها البعض من أجل عدم إجراء الانتخابات النيابية».

هولاند والحريري

إلى ذلك، تَشخصُ الأنظار الى باريس اليوم حيث يُعقد في قصر «الإليزيه»عند الثالثة بعد الظهر لقاءٌ بين الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والرئيس سعد الحريري.

وقالت مصادر تواكب الحريري في هذه الزيارة لـ«الجمهورية» «إنّ اللقاء الذي سيكون ثنائياً هذه المرّة يكتسب أهمّية خاصة، فالرئيس الفرنسي يسعى عبر ديبلوماسيته إلى تحقيق خرقٍ في الاستحقاق الرئاسي، وهو ما يتلاقى ومساعي الحريري إلى مثلِ هذا الخرق في الجمود القائم الذي انعكسَ شَللاً في كلّ المبادرات التي أُطلِقت للخروج من الشغور الرئاسي».

وتأتي زيارة الحريري لباريس في إطار الجولة الواسعة التي يقوم بها حتى الآن اليوم، وكان منها زيارته الاخيرة لموسكو ولقاؤه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل أن يقصد تركيا للقاءِ الرئيس رجب الطيّب أردوغان ساعياً إلى الخروج بالملف الرئاسي من عنقِ الزجاجة، وهو يدرك أنّ أيّ خرقٍ لن يتحقّق ما لم تكن طهران في قلب العملية السياسية المقبلة.

ففي رأي الحريري أنّ طهران هي التي تعوق التفاهمات الداخلية، ولدى كلّ من التقاهم إلى اليوم اتّصالات مع العاصمة الإيرانية ولا بدّ من توفير طرح يعدّل في استراتيجية طهران المعتمَدة لتجميد الملف اللبناني كما أرادت طهران ذلك، وهو ما كرّسَته حتى اليوم أمراً واقعاً لا يشكّك فيه أيّ عاقل مطّلع».

وإلى هذه المعطيات، أضافت المصادر «أنّ الحريري يزور باريس هذه المرّة للاطّلاع على ما تَحقّق منذ زيارة هولاند لبيروت في 16 و17 نيسان الماضي، حيث وعد بإجراء مزيد من الاتصالات مع القوى الإقليمية والدولية والفاتيكان. وسبقَ له أن التقى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي مرّةً أخرى في العاصمة الفرنسية في التاسع من الجاري، ولا شكّ في أنّ هناك جديداً يمكن البحث في تثميره للخروج من المأزق.

ملفّات أمنية وإقليمية

وإلى الملف الرئاسي ستتناول المحادثات بين هولاند والحريري ملفات المنطقة والأزمة السورية وتداعياتها على لبنان ودول الجوار السوري، وملفات مختلفة امنية وسياسية واقتصادية وإقليمية ودولية، تضطلع بها فرنسا في هذه المرحلة وهي تستعدّ لرئاسة مجلس الأمن الدولي في حزيران المقبل، ما يعطي دفعاً جديداً لمبادراتها القائمة في اتّجاه طهران والرياض وغيرهما من العواصم المؤثّرة في الوضع في لبنان.

الهبة السعودية

وستتناول المحادثات أيضاً مصير الهبة السعودية الفرنسية، وما آلت إليه الوعود الفرنسية لإحياء هذه الهبة بعدما نجحت في تأمين الموافقة السعودية في تصنيع الأسلحة التي وعِد بها لبنان، على أن تبقى في المستودعات الفرنسية الى حين تحديد وجهة استخدامها، بعدما تراجعَت المملكة عن النيّة بنقلها إلى أراضيها الى أجَلٍ غير محدّد، وهو ما عُدَّ منفَذاً مفتوحاً يمكن أن يؤدي في أيّ لحظة إلى إعادة تسليمها للبنان، نظراً إلى حجمها ومدى تطابقِها وحاجات المؤسسة العسكرية اللبنانية، وطبيعة استخدامها على الحدود وفي المهمّات على مستوى الداخل اللبناني.

مجلس الوزراء

وفي هذه الأجواء يعود مجلس الوزراء إلى الانعقاد في جلسته العادية عصر الخميس المقبل في السراي الكبير، وقد وجّهت الأمانة العامة الدعوة إليها مرفَقةً بالتذكير بأنّ جدول اعمالها ما زال نفسه الذي عُمِّم الأسبوع الماضي، ولم يتسنّ للمجلس مناقشته، بعدما استغرقَت المناقشات في ملف العقوبات الأميركية المالية على «حزب الله» وقياداته ما كان مخصّصاً للبحث في الجدول بالإضافة الى ملفات أخرى تجاوزَت إمكان البحث في بنوده الـ 120 والتي يتصل بعضُها بالتعيينات الإدارية والإعلامية التي جمدت في تلفزيون لبنان ومحافظ جبل لبنان إلى أمدٍ غيرِ منظور، أقلّه إلى مرحلة ما بعد الانتخابات البلدية والاختيارية التي تنتهي في 29 الجاري.