كانت الأمنية الأحب إليه، أن يسقط شهيدا. أما الجبهة الأقرب إلى قلبه، فهي أن يسقط في الميدان في مواجهة الإسرائيليين أو التكفيريين. التوقيت ليس مهما عند مصطفى بدر الدين («السيد ذو الفقار»). كان يمكن أن يسقط شهيدا وهو في العقد الثاني من عمره، يوم تطوع لمقارعة الإسرائيليين عند مشارف العاصمة، في صيف العام 1982، أو يوم انبرى مع ثلة من المقاومين لتنفيذ عمليات ضد المحتل في قلب الضاحية الجنوبية.
هو أحد القياديين المقاومين الذين ترصدهم «دول» وأجهزة وشبكات.. ولطالما نجا من محاولات اغتيال، كان آخرها في سوريا نفسها بالقرب من مقام السيدة زينب، حيث نخرت الرصاصات والشظايا موكبه، وأكمل دربه.. حتى الشهادة التي كان يشتهيها وهو القائل «لن أعود من سوريا إلا شهيداً أو حاملاً راية النصر».
شخصية غامضة عند الجمهور العام، لكن لكل مسؤول في «حزب الله» رواية خاصة معه من موقع تفاعله في قلب حياة الحزب الداخلية. لا يحضر لقاءات عامة ولا يظهر عادة في المناسبات الاجتماعية أو الحزبية إلا في ما ندر، وتحديدا عندما قرر خرق التدابير والمشاركة في تقبل التعازي بالشهيد عماد مغنية، ومن ثم نجله الشهيد جهاد، كما احتك مباشرة مع الناس يوم وفاة والده منذ أكثر من سنة.
رجل هادئ وفي الوقت ذاته لا يتهاون مع الخطأ. يتميز بجرأة مجبولة بالخبرة والإقدام والمبادرة والثقة العالية بالنفس. يحلو للبعض في «حزب الله» تسميته بـ«المغامر العاقل». خبرته ميادين المقاومة مع الاحتلال أكثر من عقدين من الزمن، وصار الاسرائيليون، في المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، يحفظون اسمه عن ظهر قلب.
في السنوات الأربع الأخيرة، وتحديدا منذ لحظة انخراط «حزب الله» في المعركة التي تجري على أرض سوريا، كان مصطفى بدر الدين، أعلى قائد عسكري للمقاومة في سوريا. يتواصل مع الايرانيين والروس وأركان النظام السوري. يعرف الأرض ليس من خلال الخرائط بل المعاينة المباشرة التي جعلته على تماس مع الخطر في حلب وحمص والقنيطرة والقلمون والغوطة وتدمر وغيرها من النواحي السورية.
حتى أن الشهيد بدر الدين، كان يمضي معظم وقته في سوريا، ولا يزور الضاحية الجنوبية الا في معرض تفقد أسرته أو أداء واجب اجتماعي سريع.
ولأن هذا بعض سيرته فقط، كان الرجل قيد الرصد والمتابعة من أجهزة كثيرة، لكنه هو نفسه، كان يردد أن البيئات السورية مختلفة عن البيئات اللبنانية سياسيا وديموغرافيا وجغرافيا. لقد استهدف عماد مغنية في عز القبضة الأمنية السورية (2008) وسقط قياديون آخرون اغتيالا مثل سمير القنطار وجهاد مغنية، ومثلهم في مواجهات مباشرة مثل أبو محمد الاقليم وأبو علاء البوسنة وأبو عيسى، وذلك في عز الأزمة السورية المشرعة على اختراقات من كل حدب وصوب. من الجو والبر والبحر. من الاتصالات والشبكات الأمنية على الأرض والرصد الجوي الدائم، فضلا عن الرصد والمتابعة من مجموعات التكفيريين.
بهذا المعنى، تصبح ظروف التمويه والتخفي التي يتقنها «حزب الله» في لبنان كله، من دون استثناء، مختلفة عنها في سوريا الشاسعة جغرافيا والمفتوحة على خروقات أمنية موجودة في العديد من «المفاصل» في ضوء الكثير من الوقائع والتجارب، خصوصا في السنوات العشر الأخيرة.
هذه المعطيات الأمنية، وقبلها سلسلة من الخروق، لم تمنع «حزب الله» من دفع قيادييه المصنفين من «الصف الأول»، للتواجد في «الخط الأول»، وهذا الأمر يتم بقرار واع وليس نتيجة انفعالات. حزب يستشهد أمينه العام (السيد عباس الموسوي) وقائده العسكري (الحاج عماد مغنية) صار بفعل التراكم والخبرات، حزبا ولاّدة للقيادات والكوادر. سقط مصطفى بدر الدين، ليل أمس الأول، ولم تمض ساعات حتى كان الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله يوقع قرار تعيين مسؤول يتولى قيادة معركة الحزب على أرض سوريا.
برغم ذلك كله، لا يمكن تجاهل أن ما حصل يشكل ضربة معنوية، سياسيا وأمنيا، خصوصا في ظل الرمزية التي يمثلها قادة مثل مصطفى بدر الدين، في هكذا حالات حزبية باتت «عملة نادرة»، ليس في لبنان، انما في الكثير من الحركات الفدائية والحزبية في المنطقة والعالم.
لم يكن قد مضى على وصول موكب «ذو الفقار» إلا وقت قليل إلى مقر أو منزل حزبي يقع في الغوطة، وتحديدا في منطقة قريبة من مطار دمشق، تضم مخازن أسلحة وذخيرة تابعة للجيش السوري. بين التاسعة والنصف والعاشرة مساء، يسمع دوي انفجار كبير ومفاجئ، ليتبين أن مصطفى بدر الدين قد سقط شهيدا وجرح اثنان أو ثلاثة من حراس المقر وحراسته الشخصية (إصاباتهم طفيفة).
عمليا، تفصل بين هذا المقر وبين بعض نقاط المجموعات الإرهابية التكفيرية بضعة كيلومترات قليلة. المنطقة مكشوفة أيضا أمام حركة الطيران. ووفق إفادات شهود عيان، لطالما تعرضت هذه النقطة في أوقات سابقة لقصف مدفعي مصدره مواقع المجموعات التكفيرية.
تم نقل جثمان الشهيد مصطفى بدر الدين الى احد مستشفيات العاصمة السورية، وبعد معاينته، تبين أنه قد اصيب بشظايا غير قاتلة في بعض أنحاء جسمه الذي لم يشوه أبدا، وأظهر تقرير طبي أن الوفاة ربما تكون ناجمة عن عصف الانفجار القوي. ومن دمشق، نقل الجثمان الى مستشفى الرسول الأعظم في بيروت قبيل ساعات الفجر الأولى، حيث كان في انتظاره أفراد عائلته وبعض القيادات الحزبية. في الوقت نفسه، توجه عدد من ضباط المقاومة، وهم جميعهم من خبراء المتفجرات، الى سوريا، وباشروا تحقيقا ميدانيا أنجز مساء أمس، ورفعوا في ضوئه تقريرهم الى قيادة «حزب الله»، «وعندها سنبني على الأمر مقتضاه»، كما أعلن نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم خلال مراسم تشييع الشهيد بدر الدين من الغبيري مسقط رأسه الى روضة الشهيدين حيث ووري في الثرى في ضريح ملاصق لضريح الشهيد عماد مغنية. وقال قاسم: «تلمسنا خطوات واضحة تؤشر إلى الجهة وإلى الأسلوب لكننا نحتاج إلى بعض الاستكمال لنتيقن مئة بالمئة وإن شاء الله تعالى سنعلن هذا الأمر على الملأ».
من هنا، سيحاول التحقيق الذي ستعلن نتائجه صباح اليوم، على الأرجح، الاجابة على أسئلة كثيرة بينها الآتي:
• ما هي طبيعة الانفجار (صاروخ أرض أرض موجه أو صاروخ جو أرض أو قذيفة عادية الخ...)؟
• هل رصدت الأجهزة السورية أو الايرانية أو الحزبية حركة طيران بالتزامن مع وقوع الانفجار؟
• هل ترافق الانفجار مع اتصالات حصلت من داخل المقر الحزبي أو محيطه (اجراء اتصال سواء من بدر الدين أو أحد حراسه أو بعض من يقيمون أو يتمركزون بالقرب منه)؟
• ما هو المسار الذي سلكه أو سلكته الصواريخ وهنا المقصود تحديد النقطة التي انطلقت منها؟
• ما هي نوعية التفجير (الصاروخ والقذيفة)، وذلك بهدف التعرف على نوعية الأسلحة وبالتالي تحديد من يمكن أن يمتلكها؟
• ما هو الشعاع ونوعية المتفجرات التي عثر عليها في أرض المكان (البارود والشظايا الخ..)؟
• هل تم الاشتباه بتعقب ورصد للموكب قبل وصوله الى النقطة التي وصل اليها؟
• هل حصل أي اهمال من نوع الحضور الى المكان نفسه بالمواكب نفسها وفي مواعيد متقاربة؟
يفترض بالتحقيق أن يقدم صورة أولية عن الجهة المسؤولة عن التفجير، خصوصا أن بيان «حزب الله» الثاني، صباح أمس، كان دقيقا جدا باعلانه أن المعلومات المستقاة من التحقيق الأولي، «تفيد أن انفجاراً كبيراً استهدف أحد مراكزنا بالقرب من مطار دمشق الدولي، ما أدى إلى استشهاد (السيد ذو الفقار) وإصابة آخرين بجراح».
واللافت للانتباه في هذا السياق أمران اثنان، أولهما مبادرة الأميركيين الى تبرئة أنفسهم من العملية، باعلان متحدث رسمي باسم البيت الأبيض للصحافيين أنه «لم تكن هناك طائرات أميركية أو تابعة للتحالف في المنطقة التي قيل إنه (بدر الدين) قتل فيها»، وهذه من المرات النادرة التي يبادر فيها الأميركيون الى التنصل سريعا من دماء رجل موجود اسمه في اللوائح الأميركية السوداء، خصوصا وأنه من المتهمين باستهداف مقر «المارينز» في بيروت في العام 1983.
أما الأمر الثاني، فيتمثل بتصرف الاسرائيليين، سياسيا وعسكريا وأمنيا، بنوع من الاسترخاء، بدليل عدم تبديل قواعد عمل دورياتهم ومواقعهم على طول الحدود الشمالية مع لبنان، وهذا الأمر تقاطع مع تحليلات لعدد من المحللين العسكريين والسياسيين الاسرائيليين، يشتم منها أن هذا الاسترخاء ناجم عن قناعة اسرائيلية بأن «حزب الله» يدرك ضمنا أن اسرائيل ليست هي من نفذ العملية، والا لكان تصرفها سيكون مختلفا، من دون أن تخفي «سعادتها» بشطب بدر الدين من لائحة من تضعهم على قوائم الاستهداف منذ ربع قرن من الزمن.
وبطبيعة الحال، لو كان «حزب الله» متيقنا من أن الاسرائيليين هم من نفذوا العملية، لكان بادر الى اعلان موقف كبير جدا، في ضوء «قواعد الاشتباك» التي أرستها اغتيالات واستهدافات مشابهة أو من نوع آخر على الأرض السورية في السنوات الأخيرة.
يذكر أن السيد حسن نصرالله سيطل، لمناسبة ذكرى مرور أسبوع على رحيل الشهيد بدر الدين، عند الساعة الخامسة من عصر يوم الجمعة المقبل، في مجمع «سيد الشهداء» في الضاحية الجنوبية.