تمهيد: طرح الصحافي الراحل جوزيف سماحة، عشية الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان على المثقفين عامة، والشيعة تحديدا،المساهمة في طرح قضية المقاومة وتنظيماتها بعد التسوية المرتقبة بعد تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ٢٤٢ .
وقد كانت لي مساهمة نُشرت في جريدة السفير، في صفحة الرأي التي كان يشرف عليها الراحل سماحة، وذلك بتاريخ ١٦ آب عام ١٩٩٩ ،العدد رقم ٨٣٧٤. وسأناقش هنا ما سبق وكتبته بالنقد والتحليل.
أولاً: التفاؤل المفرط بمستقبل واعد للحزب.
مع الميل الدائم عندي إلى الوقوف موقف النقد البناء لكل حركة جهادية تتصدّى لعسف الاحتلال وقهره، فقد رأيت يومها أنّ حزب الله لا يُختزل بالمقاومة، فالمقاومة هي حقيقة واقعة (يومها)،إلاّ أنّ هذه الحقيقة ليست جوهراً، أو شيئاً مُعطى بشكل جاهز ونهائي، وإنّما هي تركيب أو أثر ناتج عن تركيب لفظي ومعنوي وواقعي، قد ينهار لاحقاً كي يحُلّ محله تركيب جديد، أي حقيقة جديدة( زوال الاحتلال) فالحقائق تنهار وتموت حسب التصورات الابستمولوجية الحديثة، وليست أبدية أو خالدة كما يتصور اللاهوت القديم، أو الميتافيزيقا المثالية، وهذا ليس أمراً يسيراً على حزب مارس الجهاد ضد الاحتلال الإسرائيلي لفترة قاربت العقدين من الزمن، وتحتل المقاومة مساحة كبيرة من نشاطه وإعلامه وطاقته البشرية والمادية، وهو هنا أمام امتحان عسير عندما يحين موت حقيقة وولادة حقيقة جديدة.
ثانياً: المقترحات الضائعة..
تصورت يومها، وعلى التفاؤل المعهود، أنّ الحزب سينتقل فور انتهاء الاحتلال، إلى مرحلة جديدة، تختلف عن مرحلة الجهاد المرتبط بالعنف، مرحلة تتسم بالهدوء والمرونة والسلاسة التي تتطلبها مرحلة الجهاد الكامن، وأنّ الحزب سيعمد إلى الكفّ عن استعمال المخزون الروحي لصالح المشروع السياسي، فقد اقتات السياسي من الروحي أكثر من اللازم، وأطول ممّا ينبغي، وحزب الله ، حزب قاعدته ومثاله وعقيدته دينية، وعندما ينزع ثوبه هذا، فسيكون شيئاً مغايرا البتة، لذا، وإذا كان المطلوب أن تستمر حيويته وفاعليته في ظروف مستجدة، فعليه أن يُرفق حركته بفعالية تفسيرية ولاهوتية وفقهية منفتحة وخلاّقة، لكي تشكل المرافق الفكري للعقائد والطقوس الدينية والشعائرية، وإعادة الاعتبار والأولوية للبعد الروحي المؤدي فعلا لا قولا إلى التواصل مع العرفان الشيعي والإسلام الوسطي والمعتدل، وهذا يتطلب جهدا مضاعفا من رجال دين متنورين، ومشتغلين بالعلوم الإنسانية المنفتحة على قضايا المسلمين وهمومهم ،في ظروف قاسية وصعبة، فالعولمة ضارية لا ترحم، كذلك ربيبتها الأصولية.
ثالثاً: الخيبات المُرّة والآفاق الغامضة..
انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان، وتفصلنا أيام عن الاحتفال بالذكرى السادسة عشرة للتحرير، ما زال الحزب منغمساً في التطبيق الحرفي لولاية الفقيه، وزادت التبعية السياسية والدينية لمشاريع إيران الإقليمية، وتم القضاء نهائيا على الحيوية التنظيمية وتداول المناصب والمراكز داخل بنية التنظيم، واستعملت إيديولوجيا المقاومة في اللعبة السياسية الداخلية، وزاد في البلاء بلاء التدخل العسكري المباشر في سوريا، والتدخل السياسي والإعلامي في معظم النقاط الساخنة في المنطقة، والحزب ما زال سجين مقولاته عن المقاومة ضد إسرائيل، في حين أنّ وجوه الصراع في المنطقة، باتت بحاجة ماسة لقيادات جديدة وروئ جديدة، وفقه متجدد، وعلماء الدين لا الدنيا، وهذا متوفر بحمده تعالى.