لا يحتاج الرئيس سعد الحريري الى صناديق الاقتراع في بيروت، وحتى في زحله، كي يكتشف ان ثمن مغامراته السياسية، وآخرها ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجيه، كبير وباهظ. ولا يحتاج ايضا الى هذه الحملة الاعلامية والسياسية المضادة، كي يطلق تهديدات في شأن الحفاظ على الشراكة، ما دامت القوى المسيحية هي التي تحمل منذ سنوات شعار رفع الغبن عن المسيحيين واحترام حقوقهم التي حافظ عليها اتفاق الطائف وأهدرها تنفيذه برعاية الرئيس رفيق الحريري، وترويكا الحكم في ظل النظام السوري.
ولا يحتاج حكماً الى التلويح بالمناصفة، ما دامت المناصفة الحقيقية «سرقت» في عهد الأب والابن، بحسب ما تقول اوساط مسيحية، بعدما ضاعف الحريري من حدّة تهديداته تجاه القوى المسيحية، فيما لم يتوجه الى حلفائه الاخرين بأي كلمة اعتراضية.
في الاسابيع الاخيرة، كُشف عن كلام قيل في بيت الوسط، يعبّر تماماً عن النيات المضمرة تجاه القوى المسيحية الحليفة وغير الحليفة، وليس اقلها ما اعاد الحريري قوله علنا عن المناصفة في بلدية بيروت وغيرها. واذا كانت المناصفة في بلدية بيروت لا تحتاج الى الحريري وحده، وهي جرت برعاية كافة القوى السياسية ولا سيما الرئيس نبيه بري الذي حرص على تذكير المعنيين بضرورة حصولها مهما كان الثمن، فان القوى المسيحية المعنية لديها ايضا دفتر شروط مضاد في وجه تلميحات الحريري وتلويحه باتخاذ «عقوبات مستقبلية» في حق الشركاء المسيحيين.
هذا الاقتراع هو جردة
حساب منذ «السين سين» وزيارة دمشق
بعيداً عن لغة الارقام والنتائج المعبّرة التي خلصت اليها الانتخابات البلدية وتقويم الاقتراع المسيحي والاسلامي للوائح المتنافسة في بيروت وقدرة الاحزاب المسيحية على التجييش، فان ثمة حقائق سياسية يقولها سياسيون معنيون ويفترض بفريق الحريري ومستشاريه ان يضعوها في حساباتهم، وهي ان هذا الاقتراع ليس عملية حسابية، والرد على الحريري لن يكون باللجوء الى تبريرات علمية وجداول وارقام. هناك كلام يقال لرئيس الحكومة السابق بوضوح:
هذا الاقتراع بنسبه المئوية كان اقل من نسبة الاقتراع التي سجلت عام 1992 حين قاطع المسيحيون الانتخابات النيابية، والتي اوصلت الى المجلس النيابي طاقم الحكم الذي لا يزال مستمراً حتى الان بمعظمه منذ ذلك الحين، من دون الكتائب والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر.
والاقتراع المسيحي، ببساطة، ليس وليد اللحظة الانتخابية او انقلاباً على التحالفات التي صيغت من فوق الطاولة او من تحتها، وليس قفزاً فوق لقاءات عقدت في بيت الوسط او غيره. عمر هذا الاقتراع المسيحي اشهر وسنوات، وهو نتيجة ما يسميه احد السياسيين «تسويات غامضة وشكوك وسوء نية» يمارسها الحريري وفريقه يوميا تجاه القوى المسيحية الاساسية. فاقتراع بيروت، وتحديدا الدائرة الاولى، لا علاقة له لا بتصفيات حسابات شخصية داخل التيار الوطني الحر، ولا بدور القوات اللبنانية في التحكم بجمهورها، بل له علاقة بممارسة الحريري تجاه المسيحيين منذ التحالف الرباعي حتى اتفاق الدوحة وبعده وترؤسه الحكومة وخروجه من بيروت وعودته اليها. هذا الاقتراع هو جردة حساب منذ «السين سين» وزيارة دمشق والرئيس بشار الاسد، هو اقتراع تشكيل الحكومة مع من كان يتهمهم بنفسه باغتيال والده، والمشاركة في حكومة وحوار من دون القوات اللبنانية ورئيسها الدكتور سمير جعجع، والانقلاب على الحوار مع رئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون، والسير بكل ما هو ضده في الحكومة وفي قانون الانتخاب وفي ترشيح فرنجيه. وهو اقتراع ضد خيار تسوية باريس وترشيح فرنجيه في وجه تفاهم معراب ــــ الرابية، والاصرار عليه بعدما اعلن جعجع ترشيح عون.
هذا الاقتراع هو تماما ما كانت القيادات السياسية المسيحية تحاول ان تغلّفه بقالب ديبلوماسي، وابقاءه تحت الطاولة حفاظا على الاستقرار وعلى التحالفات التي بنيت بعد عام 2005، بعدما خطف الحريري وفريقه كل الانتصارات التي حققها المسيحيون مع البطريرك الماروني الكاردينال مارنصرالله بطرس صفير، ليتخلى لاحقا عن الفوز في انتخابات عام 2005 ومن ثم عام 2009 ليلة اقفال صناديق الاقتراع، لمصلحة ما يعده هو تركيبة ثابتة مع بري.
وتصويت بيروت يعني حقيقة ان احدا من هذه القيادات لم يغفر للحريري ما يقوم به يوميا، في اطار استبعاد القيادات المسيحية ومحاولة التحدث باسمها، فقط لان في كتلته بضعة اسماء مسيحية. ولم تسامحه يوما على انه يريد الاستئثار بحصة المسيحيين في مجلس الوزراء ومجلس النواب وفي الادارة، وفي الاستمرار في نهب المال العام والفساد الذي استشرى في عهد حكومات فريقه المتتالية.
واذا كان «بيت الوسط» لا يسمع سوى الموالين له في قوى 14 آذار والمستفيدين من تركيبة الحريري، فان الدلالة الابرز التي لا تتعلق فقط بالمسيحيين، هي ان اعضاء لائحة «بيروت مدينتي» التي تضم مرشحين هم اقرب الى فكرة 14 آذار، نالوا هذا الكم من التصويت الاعتراضي على اسلوب ادارة السلطة التي يتمثل الحريري وفريقه بأبرز رموزها، ولا سيما في آخر ملفين حيويين: سوكلين والنفايات، واوجيرو والاتصالات.
منذ عودة الحريري الى بيروت تتوالى خطواته الناقصة. لا يكاد يمر يوم من دون هفوة سياسية كبيرة او صغيرة، وسط استمرار سياسته في استهداف القوى المسيحية. ما لم يدركه الحريري بعد ان هذه القوى لن تغض الطرف عن التهديدات التي يطلقها. فما يقال امام الكاميرات، يختلف تماما عما يقال في الصالونات السياسية. هكذا هي الحال في «بيت الوسط» حيث تكبر دائرة المطالبين باقصاء المسيحيين، وهكذا هي حال القوى المسيحية التي لن تكون مكسر عصا. ولن تسكت كما لم تسكت منذ عام 1990 وحتى 2005، حين سكت آخرون.