برغم مضي أيام عدة على انتهاء الانتخابات البلدية في بيروت، إلا أن هزاتها الارتدادية لا تزال متواصلة، بعدما أدت نتائجها المركّبة الى تحريك «فالق» الهواجس المتبادلة بين «تيار المستقبل» وحلفائه المسيحيين.
وإذا كانت صناديق الاقتراع في بيروت وعاصمة البقاع قد باحت بمكنوناتها وأسرارها، فإن دفاتر الحساب فُتحت للتو في «بيت الوسط» ومعراب والصيفي، بعدما كشفت أرقام المقترعين للائحة «البيارتة»، كما أعداد المقاطعين للعملية الانتخابية عن خلل فادح في منظومة التحالف وبنيته التحتية التي بدت بحاجة ملحة الى أعمال صيانة.
حتى الأمس القريب، اعتاد حلفاء الحريري من المسيحيين، خصوصا رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، على التخفيف من وطأة التناقضات التي كانت تسري تحت جلد التحالف، متسببة بعوارض جانبية.
كثيرا ما كان جعجع يستخدم القفازات السياسية في مقاربة العلاقة بالحريري، مفضلاً تدوير الزوايا الحادة على الاصطدام بها، الى حد أنه قرر أن «يبتلع» الإهانة التي شعر بها عندما لامه رئيس «المستقبل» علنا على توقيت المصالحة مع العماد ميشال عون، خلال احتفال «14 آذار» في «البيال».
يبدو جعجع وكأنه يريد لعلاقته مع الحريري أن تكون مضبوطة على إيقاع عقارب ساعته، وليس على وقع ردود الفعل الارتجالية، ولو اضطر لكتم الغيظ الى حين، في انتظار اللحظة المناسبة لتغيير قواعد اللعبة.
والأرجح أن جعجع بات يميل في أعقاب تفاهمه مع عون الى تعديل شروط «العقد» الذي كان يربطه برئيس «المستقبل»، لا سيما بعدما ساهمت مصالحة معراب في تعزيز رصيده وتحسين موقعه التفاوضي.
وبقعة زيت التململ المسيحي امتدت أبعد من معراب، الى درجة أن شخصية كانت محسوبة تقليدياً على «المستقبل»، مثل الوزير ميشال فرعون، باتت لا تخفي تمايزها عن التيار الازرق. ويروى أن فرعون صارح الحريري مؤخرا، بحقيقة المزاج المسيحي المتذمر في العاصمة، نتيجة نهج المجلس البلدي لبيروت، قائلا له في أحد الاجتماعات: أنا اسمي ميشال فرعون، وأنا وزير ونائب، ومع ذلك لم أحصل على خدمة من بلدية بيروت (السابقة) منذ مدة طويلة.
«القوات» تصارح الحريري
وتعترف مصادر مقربة من «القوات اللبنانية» بأن هناك خللاً في التحالف مع «المستقبل»، بلغ حد «العطب البنيوي»، الأمر الذي بات يتطلب مراجعة نقدية جريئة من الطرفين، بغية تصويب المسار، قبل أن تتفاقم الأزمة بينهما.
وترفض المصادر المطلعة على مناخ معراب اتهامات «المستقبل» لحلفائه المسيحيين، وفي طليعتهم «القوات»، بخيانة لائحة «البيارتة» وعدم الإيفاء بالالتزامات المفترضة حيالها، لافتة الانتباه الى أن النتيجة الهزيلة التي حصدتها اللائحة تعود الى تراكم مجموعة من الملفات التي لا علاقة لـ «القوات» بها، بل نشأت على ضفاف «المستقبل» بشكل أو بآخر، ما أثّر على الرأي العام المسيحي وخياراته الاحد الماضي.
وتشير المصادر المقربة من «القوات» الى أن أداء المجلس البلدي السابق الذي انتُخب تحت مظلة «المستقبل»، كان مجحفاً بحق الأحياء البيروتية المسيحية التي عانت من حرمان إنمائي متعدد الأبعاد، «وحتى معالجة أزمة النفايات على سبيل المثال خضعت الى ازدواجية المعايير، إذ كانت تُرفع من مناطق عدة في بيروت فيما تُركت متراكمة في الأشرفية لوقت طويل».
والى جانب التمييز في المعاملة الإنمائية، تأثر الجمهور المسيحي - وفق المصادر ذاتها - بنمط التعاطي مع مسألة الحوض الرابع في المرفأ، وقضية الانترنت ودور عبد المنعم يوسف فيها، ومحاصرة جهاز أمن الدولة الذي يقوده ضابط مسيحي، وترشيح رئيس «المستقبل» للنائب سليمان فرنجية، والإساءة التي وجّهها الحريري الى جعجع علناً خلال احتفال «البيال» الشهير، والتي كادت تتسبب باندلاع مواجهات ساخنة بين الجمهورين لولا مسارعة رئيس «القوات» الى احتواء ما جرى.
وتشير المصادر المطلعة على أجواء معراب الى أن طريقة تشكيل لائحة «البيارتة» انطوت على ثغرات عدة، موضحة أن «القوات» لم تكن موافقة على طريقة تأليفها من حيث الشكل والمضمون، ولكنها تخطت تحفظاتها وقبلت بأن يكون لها مقعد واحد في المجلس البلدي، حرصاً على حماية التحالف مع «المستقبل»، الذي كان يُفترض به تقدير هذا السلوك، وليس التجني على «القوات» باتهامات انفعالية.
وتضيف المصادر: المفارقة، أن «القوات» متهمة بعدم احترام التزاماتها، في حين ان اسم مرشحها هو الذي تعرض للتشطيب الواسع في الشارع السني، ما أدى الى حلوله في المركز الأخير على اللائحة الفائزة، والمفارقة الاخرى أن البعض افترض أن هناك إمكانية لتشغيل محركات الماكينة الانتخابية لـ «القوات» بطاقتها القصوى وراح يحاسبها على هذا الأساس، متجاهلا أن لها مرشحاً واحداً على اللائحة.
وتتوجه المصادر الى الحريري بالقول: لو سملنا معك بأن «القوات» والاطراف الاخرى في الدائرة الاولى تعمدت بقرار سياسي إعطاء لائحة «بيروت مدينتي» الأصوات المسيحية، علما ان هذا ليس صحيحا، فمن يتحمل المسؤولية عن الأصوات السنية التي حصلت عليها تلك اللائحة، وعن النسبة الواسعة من المقاطعة السنية لانتخابات العاصمة.. أليس «تيار المستقبل»؟
وتتوقف المصادر المقربة من «القوات» عند سلوك الحريري في زحلة التي تعادل برمزيتها الاشرفية وبشري وتكاد تكون عاصمة «القوات»، متسائلة: أين هي الحكمة ومقتضيات مراعاة التحالف في أن يزور الحريري السيدة ميريام سكاف عشية الانتخابات البلدية، ثم يدعمها في معركتها ضد لائحة الاحزاب التي شكلت «القوات» أحد أركانها ودعائمها؟
وتشدد المصادر على أنه لم يعد مقبولا تحميل «القوات»، في كل مرة، تبعات أي إخفاق أو خلل يحصل على مستوى مقاربة الاستحقاقات السياسية والانتخابية، من البلدية الى رئاسة الجمهورية وما بينهما، «ولا تجوز المبالغة في الاتكال على صبر «القوات» ورباطة جأشها..».
وتعتبر المصادر أن «تيار المستقبل» مدعو الى مراجعة ذاتية جريئة والتدقيق في نقاط الضعف التي يعاني منها، ملاحظة أن الحريري ارتكب العديد من الأخطاء بحق المسيحيين منذ عودته الى لبنان، ما ولّد لديهم حالة من الاحتقان انعكست على سلوكهم في الانتخابات البلدية، «وهذه حقيقة ينبغي الإقرار بها، تمهيدا لمعالجتها، وليس الهروب منها الى الأمام».
وترى المصادر أن مشكلة «المستقبل» الحقيقية والعميقة تتمثل في افتقاره الى «الواقعية» في مقاربة الملفات والاستحقاقات، خلافاً لوضع «القوات» التي تحسن التوفيق بين براغماتيتها ومبادئها، معربة عن اعتقادها بأن الحريري لا يتكيف بالقدر المطلوب مع معطيات الواقع وحقائقه، بل ينطلق من مقدمات خاطئة تقود حكماً الى نهايات غير سعيدة.
وتؤكد المصادر المقربة من «القوات» أن الفريق المحيط بجعجع لا يحرضه على فك ارتباطه بـ «تيار المستقبل»، برغم كل المآخذ على نهج الحريري، آملة أن يكون لدى المحيطين بالحريري الحرص ذاته، وأن يسدوا له النصائح المفيدة، لا تلك التي تورطه في المآزق.
وتؤكد المصادر أن «القوات» لن تشارك بعد الآن في أي تركيبة ائتلافية لا تتوافر فيها مقوّمات النجاح، لافتة الانتباه الى أن جعجع لا يزال حريصاً على استمرار التحالف مع «المستقبل»، برغم كل شيء، لكنه يتطلع في الوقت ذاته الى نقاش صريح حول مكامن الخلل، لتصحيحها على قاعدة وضع الأمور في نصابها وتحقيق التوازن من البلدية الى مؤسسات الدولة.

فرعون يتمايز

أما الوزير ميشال فرعون، فيؤكد لـ «السفير» أن القيادات المسيحية لم تخدع الحريري ولم تطعنه، لافتا الانتباه الى أن هناك أسباباً موضوعية وراء ما جرى في العاصمة الاحد الماضي.
ويشير الى أن لائحة «البيارتة» وُلدت قبل أيام قليلة من موعد الانتخابات، بعد مفاوضات مضنية، وبالتالي لم تتوافر فسحة زمنية كافية من أجل تسويقها وإقناع الناخبين بها، ملاحظا أن الناس الذين خاب أملهم في المجلس البلدي السابق نتيجة أداء رئيسه والخلافات بين أعضائه، افترضوا أن اللائحة الائتلافية ستكون استنساخا للتجربة السابقة، ما دفع جزءا واسعا منهم الى الامتناع عن دعمها أو تأييد «بيروت مدينتي» التي دغدغت بتركيبتها مشاعر البعض ومنحتهم أملاً في التغيير، ما أكسبها نوعا من العطف الشعبي.
ويدعو فرعون الى عدم التقليل من تداعيات أزمة النفايات التي كان للأشرفية حصة كبرى منها، مضافاً اليها الإحباط الشعبي المسيحي الناتج من استمرار الشغور في موقع رئاسة الجمهورية وعدم وضع قانون انتخاب عادل، وهذا كله أفرز أزمة ثقة في السلطة والطبقة السياسية، انعكست على صناديق الاقتراع في المناطق المسيحية.
ويتابع: أنا أتفهم موقف الحريري وغضبه، لكنني أتمنى عليه أن يقارب ما حصل من زاوية موضوعية، وأن يدرك أن هناك وجعاً وجرحاً عند الناس بفعل التراكمات، وأنا أدعوه الى عدم التأثر بأولئك الذين يحرضونه.

الكتائب: لا مؤامرة

وفي سياق متصل، تؤكد أوساط قيادية في حزب الكتائب أن حصيلة الانتخابات البلدية في بيروت لا تعبر عن مؤامرة أو خيانة تستهدف الحريري، بل تعكس تحولا في المجتمع اللبناني على أنقاض «8 و14 آذار» اللتين فقدتا البوصلة.
وتشدد الأوساط الكتائبية على أنه لم يكن هناك قرار لدى الاحزاب المسيحية بتهريب الأصوات الى «بيروت مدينتي»، أقله لسبب مصلحي نابع من وجود مرشحين لهذه الأحزاب على لائحة «البيارتة»، ومن كون مصداقيتها على المحك، وبالتالي فليس منطقيا أن تسيء الى نفسها بنفسها.
وتعتبر الاوساط أن هناك نوعا من التمرد داخل جمهوري كل من «8 و14 آذار»، ردا على الأزمات المتمددة في كل الاتجاهات، وحتى الـ 80 في المئة الذين قاطعوا الانتخابات البلدية في العاصمة، إنما كانوا يعبرون عن موقف سياسي احتجاجي واعتراضي موجّه الى الطبقة السياسية المعنية بأن تلتقط هذه الرسالة، لا أن تتجاهلها.
وتتساءل الأوساط: أيهما أهم بالنسبة الى الناس، انتخاب جمال عيتاني لرئاسة بلدية بيروت أم انتخاب رئيس للجمهورية يملأ الشغور المتمادي في قصر بعبدا؟
وترى الأوساط القيادية في الكتائب أن لبنان دخل في مرحلة تغيير، وعلى الحريري أن يكون مسرورا لان هذا التغيير يحصل حتى الآن بطريقة سلمية، وليس من خلال «داعش» و «النصرة».
وتلفت الاوساط الانتباه الى أن ما جرى في الاشرفية يوم الانتخابات يُبين أن المجتمع المسيحي لا يزال ينبض، ويفرز انتفاضات.