تركت الانتخابات البلدية في بيروت ندوبا عميقة على جسم العلاقة المتأرجحة بين «تيار المستقبل» وحلفائه المسيحيين وفي طليعتهم «القوات اللبنانية»، برغم كل محاولات تنظيم الخلاف، والتي كان آخرها بنكهة القريدس، خلال «العشاء الاخير» في «بيت الوسط» بين الرئيس سعد الحريري ورئيس «القوات» سمير جعجع، عشية انطلاق الجولة الاولى من الانتخابات البلدية.
وما يزيد احوال التحالف المترنح تعقيدا، ان الخلاف الذي أفرزته نتائج الانتخابات البلدية في العاصمة ليس معزولا في الزمان والمكان، بل يندرج ضمن سياق أزمة ثقة متراكمة ومتشعبة، تبدأ من أيام القانون الارثوذكسي ولا تنتهي عند حدود الاستحقاق الرئاسي، الامر الذي حوّل العديد من شوارع بيروت واقلامها الانتخابية، الاحد الماضي، الى مسرح لتصفية الحسابات، والتشطيب على الهوية الطائفية والسياسية.
انتظرها الحريري من الغرب فأتت من الشرق. اعتقد ان «التيار الوطني الحر» هو وحده الذي سيتنصل من دعم «لائحة البيارتة»، لاعتبارات مفهومة في ظل افتراقهما حول خيارات استراتيجية، لكنه لم يتصور للحظة ان الحلفاء المسيحيين المفترضين سيتنكرون للائحة وسينكرونها قبل صياح ديك الصناديق.
لا يجد رئيس «المستقبل» اسبابا تخفيفية لما جرى، وليس هناك، برأيه، ما يمكن ان يبرر «الخيانة» التي تعرض لها، في وضح النهار. شعوره بالمرارة يتجاوز بكثير ما عبّر عنه خلال خطاب الفوز، والارجح ان ما خفي في القلوب الملآنة.. أعظم.
ولعل أخطر تداعيات الاحتقان الذي نتج عن انتخابات العاصمة وزحلة، يكمن في ظهور مؤشرات استنهاض لخلايا الاصطفاف الطائفي الذي كان قد تراجع نسبيا في الماضي، تحت تأثير تحالف «المستقبل» - «القوات»، و «حزب الله» - «التيار الحر»، قبل ان تختلط الاوراق مجددا ويبرز تفاهم معراب كندّ مسيحي للشركاء المسلمين.
والسؤال المطروح بعد خيبة الامل في الحلفاء، هو: كيف سيرد الحريري.. وأين؟
وفي انتظار الجواب، يستعيد أحد المقربين من الحريري بمرارة واقعة الاحد، قائلا: الجميع على الضفة الاخرى خذلونا.. «القوات اللبنانية»، «حزب الكتائب»، ميشال فرعون، «التيار الوطني الحر»، وحتى المطران الياس عودة.. وحده «حزب الطاشناق» التزم معنا وأثبت انه الحليف الانتخابي الكفوء والأمين، بحيث صبّ «البلوك الارمني» في صناديق «لائحة البيارتة».
ويتابع مهاجما ظلم ذوي القربى: من سخرية القدر ان الاطراف المسيحية الصديقة التي خذلتنا فازت بمقاعد في المجلس البلدي لبيروت عبر أصوات «المستقبل» بشكل اساسي، لكن هذه الاطراف منحت في المقابل ما تيسر لها من أصوات، الى اللائحة المنافسة «بيروت مدينتي».
وردا على كلام متداول حول تشطيب استهدف مرشح «القوات»، تشير الشخصية المحيطة بالحريري الى انه لولا حرص «تيار المستقبل» على حماية المناصفة لكان مرشح «القوات» في «لائحة البيارتة» قد رسب، «ثم يأتي بعد ذلك من يعطي الدروس وينظّر علينا».
وتلفت الشخصية ذاتها الى ان الحريري كان يتوقع ان يمتنع انصار «التيار الوطني الحر» عن التصويت للائحة الائتلاف، «أما القوى المسيحية الاخرى والمصنفة بانها حليفة لـ «المستقبل»، فان موقفها ليس مقبولا، وما حصل الاحد الماضي يسيء اليها قبل ان يسيء الى أي أحد آخر».
وتشدد الشخصية المقربة من رئيس «المستقبل» على ان الحريري أدى قسطه للعلا عندما جيّر القدر الكافي من الاصوات السنية لتأمين فوز اللائحة وتحقيق المناصفة، فيما فتح حلفاؤه المفترضون ابوابا خلفية على «بيروت مدينتي»، متجاهلين ان التصويت «للائحة البيارتة» هو سياسي بالدرجة الاولى، وإن كان الاستحقاق بلديا.
وترى الشخصية نفسها ان هناك تفسيرين لسلوك القوى المسيحية، «أولهما انها لم تتمكن من ان تمون على محازبيها وأنصارها، وهذه مصيبة، وثانيهما ان تكون قد تعمدت الانكفاء لتوجيه رسالة سياسية الى الحريري وهذه مصيبة أكبر».
وفي اعتقاد الشخصية القيادية في «المستقبل» انه ايا يكن السبب، ليس مسموحا بأي معيار او مقياس ان يدخل البعض الى لائحة الحريري ليستفيد من طاقتها الانتخابية حتى يصل الى المجلس البلدي، من دون ان يبادلها في المقابل العطاء والوفاء، وكأنها مجرد حافلة نقل.
وعما إذا كان سلوك الحلفاء المسيحيين في بيروت يندرج في سياق رد الفعل على خيار الحريري الملتبس في انتخابات زحلة، يؤكد المصدر المنتمي الى الدائرة اللصيقة برئيس «المستقبل» انه إذا كان هناك من يحق له ان يعتب ويعترض على هذا الصعيد فهو الحريري بالدرجة الاولى.
ويلفت المصدر الانتباه الى انه «من غير المنطقي ان يتم تأليف لائحة الاحزاب، من دون ان يكون الحريري مشاركا فيها باي شكل، ثم يدعونه بعدما انتهوا من تشكيلها الى دعمها، موضحا ان الصوت السني في المدينة توزع بين ميريام سكاف ولائحة الاحزاب، «وفي حال افترض البعض ان المطلوب أكثر من ذلك، فكان الاجدر بهذا البعض ان يناقش الحريري قبل تشكيل اللائحة، وان يعرض عليه ضم مرشح سني عن «المستقبل» اليها، كما حاولوا مع المرشح الشيعي، وبعدها يجوز لهم ان يعاتبوه..».
أوساط «القوات اللبنانية» اكتفت بالقول لـ «السفير»: بالتأكيد ما من رسالة سياسية موجهة من معراب الى الحريري عبر صندوق الاقتراع، ولو كان هناك شيء من هذا القبيل، لما وُجدت «القوات» أصلا على لائحة الائتلاف، أما انكفاء الصوت المسيحي فهو انعكاس لحالة قرف وتململ سائدة لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، إضافة الى عوامل أخرى تتصل بطريقة تشكيل «لائحة البيارتة»، وما رافقها من تفاصيل وملابسات.
وتشير الاوساط الى انه من الطبيعي الا تنشط الماكينة الانتخابية لـ «القوات» في العاصمة بكامل طاقتها، ما دام ان هناك مرشحا واحدا لها على اللائحة، لافتة الانتباه الى ضرورة ان تتم مصارحة ومكاشفة بين «القوات» و «المستقبل»، لاحتواء تداعيات انتخابات بيروت.
بري: مع تقصير الولاية
في هذه الاثناء، نقل زوار الرئيس نبيه بري عنه قوله ان إجراء الجولة الاولى من الانتخابات البلدية بنجاح وسلام، يفترض وفق منطق الامور، الاسراع في اجراء الانتخابات النيابية، لكن المشكلة في لبنان ان المنطق ليس أداة القياس المعتمدة دائما.
ويشير بري الى انه شخصيا يعتبر ان بالامكان اجراء الانتخابات النيابية في اقرب وقت، وبالتالي تقصير ولاية المجلس الممددة، إذا تم التوصل الى قانون توافقي، «لان مفتاح تطوير النظام وتفعيل مؤسسات الدولة إنما يكمن اساسا في قانون الانتخاب، ولو ان الرئيس فؤاد شهاب قام من قبره الآن لما استطاع لوحده ان يغير الكثير في الوضع الحالي».
ويجزم بري بانه لن يكون هناك تمديد آخر لولاية المجلس الحالي مهما حصل، موضحا «ان امامنا خيارين، الاول انتاج قانون انتخاب عادل وعصري وفق النسبية التي باتت أكثر من ضرورية، والثاني اجراء الانتخابات على اساس «قانون الستين» في اسوأ الحالات، وهذا بالنسبة إلي هو أبغض الحلال».
ويلفت بري الانتباه الى ان المبادرة في يد المجلس النيابي، مضيفا: نحن في سباق مع الوقت، لان الولاية الممددة تنتهي بعد قرابة عشرة أشهر، ودرجت العادة ان يستغرق النواب في الاشهر الاخيرة بالانشغالات والحملات الانتخابية، ما يعني ان امامنا عمليا حوالى خمسة أشهر فقط لانجاز القانون الانتخابي الجديد، وإلا سيصبح «الستين» امرا واقعا، مع ما يعنيه ذلك من اعادة انتاج لمعظم معالم التركيبة الحالية.
ويشدد بري على ان المشروع المختلط الذي طرحه على قاعدة «64 نسبي 64 أكثري» يحقق العدالة لانه يعتمد معيارا واحدا في كل المناطق، كما ان من خصائصه انه يترك النتائج النهائية غامضة، «ولو كنت أتوقع ان يؤدي الى نوع من توازن القوى بين ما كان يُعرف بـ 8 و14آذار، ونشوء قوة وسطية وازنة».
ويؤكد بري ان المشروع الذي اقترحه يسمح للمسيحيين بان يختاروا قرابة 52 نائبا بأنفسهم وان يساهموا في اختيار عدد من النواب المسلمين.
ويرى رئيس المجلس ان التحالفات المستجدة يجب ان تدفع بعض الاطراف الى التعامل بمرونة مع اقتراحه الانتخابي، مكررا التأكيد بان معادلة «8 و14 آذار» المعلبة أصبحت خرافة، وهناك فرز جديد على الساحة السياسية. ويتابع: عندما اتفق «تيار المستقبل» و «القوات اللبنانية» و «الحزب التقدمي الاشتراكي» على مشروع انتخابي مشترك، كان هاجس «القوات» على سبيل المثال تحقيق الفوز على «التيار الوطني الحر» في المناطق المسيحية، لكن الطرفين باتا متحالفين حاليا، وبالتالي أعتقد ان المقاربة تغيرت.
وبالنسبة الى دلالات نتائج الانتخابات البلدية في بيروت، يعتبر بري انها تعكس بالدرجة الاولى قرف الناس ورد فعلهم على تراكم الفضائح، من النفايات وصولا الى الانترنت مرورا بصفقة الرملة البيضاء وملفات الفساد، مشددا على ان المشهد الانتخابي في العاصمة يجب ان يكون حافزا إضافيا لاعتماد النسبية في الانتخابات النيابية المقبلة، من أجل حث الناس على المشاركة وفتح آفاق امام فرص التغيير.