العدالة، الحق، الضمير، الحرية، الثقة كلها مواد انتهت مدة صلاحياتها وأصبحت مواد سامة وفاسدة في المجتمع اللبناني، وتم استبدالها بمواد أكثر رواجا وهي العبودية الظلم، العهر الإعلامي، الشحن المذهبي، الدجل السياسي، الرشوة، الفساد، شراء الذمم.
فلا مكان للأحرار ولا للأوفياء ولا للشرفاء في الحياة السياسية اللبنانية تحت مظلة قوى الأمر الواقع التي تتحكم بمفاصل السلطة و تتقاسم الموارد المالية للبلد والمناصب والوظائف والمناطق تبعا للتركيبة الدينية لكل منطقة وتفرض على اللبنانيين خيارات صعبة احلاهما مر.
فإما الاستسلام للمنطق الطائفي والمذهبي البغيض بحيث يفرض على كل مواطن أن يلتحق بقطيعه الطائفي، وكل قطيع يترك زمام القيادة لحاكم مستبد ومتسلط يصادر قراره ويمنع على أفراده حرية التعبير عن الرأي كي يكونوا صم بكم عمي لا يرون ولا يفقهون شيئا، او الرحيل عن وطن الأهل والأجداد والأحبة، والبحث عن وطن بديل يجد فيه نفسه ويحفظ كرامته ويمارس حريته ويعبر عن رأيه باحترام وكرامة.
وهذه الخيارات الصعبة المفروضة تبرز بشكل جلي وواضح في الاستحقاقات المفصلية التي تشكل محطات مهمة للتغير واختيار الأفضل للتقدم والنمو والتطور كالانتخابات النيابية او البلدية والاختيارية.
لكن في لبنان فإن هذه الاستحقاقات باتت تشكل مناسبة لصفقات تقاسم المناطق بين أهل السلطة بمعايير الانتماءات الطائفية والمذهبية والولاء التام للزعيم والقائد المفروض على طائفته بقوة الأمر الواقع، مع الغاء كامل لمعيار الولاء الوطني وإرادة المواطن في حرية التعبير عن رؤيته لغد أفضل، وتجاهل لأصحاب الخبرة والكفاءة والاختصاص في كافة الخدمات التي تهم المواطن في حياته اليومية.
يترافق ذلك مع إصرار قوى السلطة على إبقاء المجتمعات الخاضعة لها الاستمرار في التخبط في عوالم الجهل والتخلف والحرمان كي يسهل السيطرة عليها والتحكم بمصير أبنائها وسلبها قوة الاعتراض على مفاسد أهل السلطة والسكوت عن المطالبة بحقوقها المسلوبة وحريتها وارداتها في الحياة.
وفي هذا السياق فإن الإنتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة التي جرت الأحد الماضي في العاصمة بيروت وفي منطقة البقاع، كان واضحا تقاسم أهل السلطة للبلديات في هاتين المنطقتين.
وأن كان التفاهم قد تم من وراء الستار وفي الكواليس إلا أن نتائج هذه الإنتخابات كانت توحي بذلك وعلى أساس ان تكون بلدية بيروت ذات الأغلبية السنية من نصيب تيار المستقبل الذي يمثل الإطار السياسي الأوسع الذي يقود ويحرك الشارع السني.
فيما تكون بلدية ذحلة ذات الطابع المسيحي من نصيب القوى السياسية المسيحية / القوات اللبنانية، التيار الوطني الحر، حزب الكتائب /.
أما البلديات الكبرى الأخرى في منطقة البقاع مثل بلديات بعلبك والهرمل وبريتال ذات الأغلبية الشيعية من نصيب حزب الله مع تعهد من الحزب على ان يترك معظم بلديات ألجنوب خلال عملية الانتخاب فيه لحركة أمل التي تشكل معه الثنائية الشيعية.
ومن الطبيعي ان هذا الواقع السياسي المؤلم أن يرتب على الأحرار والشرفاء في هذا البلد على إختلاف تلاوينهم مسؤولية التمسك بالمشروع الوطني الذي يتسع للجميع، والوقوف بوجه هذه السلطة الفاسدة التي تبني قوتها على الشحن المذهبي والتلطي وراء الطائفية.....