عدتُ من باريس أواخر الأسبوع المنصرم وهي منشغلة بديناميكية نقاش شعبي ونقابي وبرلماني ونخبوي واسع حول مشروع قانون العمل الفرنسي الجديد. المشروع الجديد الذي اقترحته الحكومة بات يُسمّى "قانون الخمري" نسبةً إلى وزيرة العمل مريم الخمري الناشطة الاشتراكية المولودة في المغرب من عائلة مسلمة مغربية.
فرنسا العريقة يمينا ويسارا في تأسيس دولة الرعاية الاجتماعية والقائمة على نظرية التضامن الاجتماعي، هذه الفرنسا كلها تناقش مشروعا مصيريا حول واحدة من أهم قضاياها يحمل إسم وزيرة مسلمة الأصول. وقبل ذلك، العام الماضي، انشغلت فرنسا أيضا بمشروع تطوير في النظام التعليمي المدرسي محورُه اقتراح من وزيرة التربية الحالية المغاربية الأصل نجاة بلقاسم.
إلى ذلك نضيف ما أصبح صدمة إيجابية عالمية وهو انتخاب مسلم هندي الأصل عمدة لإحدى أهم وأعرق وأقوى مدن العالم... لندن. عمدة من حزب العمال للندن في عالم يرأس الدولة العظمى فيه باراك حسين أوباما.
أين يعيش هؤلاء السياسيون اللبنانيون الذين يديرون نظاما طائفياً متخلّفا ومغلَقاً في عالم كهذا ينخرط فيه الغرب، ومنه ألمانيا التي استقبلت مليون أجنبي آسيوي في عام واحد رغم كل الإرهاب التكفيري الإسلامي المتواصل في شوارع مدن كبيرة... ينخرط هذا الغرب في استراتيجية دمج تدريجي للنخب المسلمة في أعلى السُلّم السياسي في بلدانه.
للمرة الثانية خلال عام وفي بيروت تحديدا بل في بيروت وحدها، تُحاول شرائحُ واسعة من النخب الشبابية، بل من نخبة النخب الشبابية اللبنانية، أن تخترق جدار النظام الطائفي القوي الذي يدير دولةً تافهة.
المرة الأولى مع انطلاق "الحراك المدني" العام 2015 في وسط بيروت وبعض شوارعها المركزية الرئيسية. الحراك الذي مثّل أكبرَ حركةٍ لاعنفيةٍ في الحياة السياسية اللبنانية والذي حقّق مستوى من الإحراج والإدانة للطبقة السياسية بكاملها لا سابق له جعَلَتْ، هذه الإدانة، كلّ أطراف النظام الطائفي تتناوب بل تتعاقب على التصدّي لهذا الحراك المدني الذي أطلقه تيار ليبرالي وانخرط فيه تيار يساري.
المرة الثانية مع بلورة لائحة "بيروت مدينتي" الليبرالية (وجزئياً مجموعة شربل نحاس اليسارية). كان ذلك بوضوح استمراراً للحراك المدني بأشكال قيادية مختلفة ليس عبر المظاهرات وإنما عبر صناديق الاقتراع.
انتخابات بيروت هي الأكثر أهمية لا فقط لأنها العاصمة بل لأنها العاصمة التي تجمّعتْ فيها في تحالفٍ واحد كل أطراف النظام الطائفي وفي لائحة واحدة.( وفي "عقل" كل هذه القوى فائض حوالي المليار دولار الذي تملكه بلدية بيروت والمشاركة في صرف أجزاء مغرية منه).
صحيح أن الصدمة الاحتجاجية تلقاها تيار المستقبل ولكن "الثورة" الشبابية التي كانت تختمر بهدوء في مبادرة هذه النخبة الشجاعة في "بيروت مدينتي" كانت فعليا ضد كل النظام الطائفي وقواه وليس ضد "تيار المستقبل" وحده. وإن كان لا بد من الانتباه إلى ظاهرة حجم الأسماء الفكرية والثقافية والاجتماعية المنخرطة تقليديا في فريق 14 آذار من مختلف الطوائف والتي أيّدت لائحة "بيروت مدينتي" علنا وبنشاط على مواقع التواصل الاجتماعي.
"التيار الوطني الحر" فاتَهُ أن يسجّل خطوةً شكلية كانت لن تكلِّفه كثيرا (عضو بلدي واحد) لو امتنع عن المشاركة في "لائحة البيارتة" ففوّت على نفسه تدعيم ادّعاء كان يحرص على ترويجه وهو ادّعاء أنه قوة سياسية مختلفة عن بقية الطبقة السياسية. أما وليد جنبلاط فكنت أتمنى لو أنه كان أكثر جدية في سخريته من هذا الشعار البدائي والاستفزازي "لائحة البيارتة" فسحب أيضا مندوبَه من لائحة "البيارتة" لمنح بعض "المِيا كولبا" الشخصية عنده بعض الجدية المحدودة الكلفة على موقفه والتي لن تُغيِّر صفتَه كقطب في النظام الطائفي ولكن على الأقل حتى تكُفَّ المسألةُ عن أن تكون مجرد طرافة بطرافة كلامية مسلّية.
بات بإمكاننا بعد انتخابات بيروت أن نتحدّث أكثر عن مشكلة عميقة بين النخبة الشبابية اللبنانية المتنورة وبين النظام السياسي. في عام واحد يعلن بعض أفضل كفاءاتنا الشبابية عن حاجتهم لتغيير مستحيل. تغيير النظام القوي العاتي في تحالف مصالح فئويات يسيطر على لبنان، أحد أكثر مجتمعات الشرق الأوسط حداثة وفيه من ضمن ميزاته النوعية الجامعتان الأهم في المنطقة والمستشفيان الأهم والنظام التعليمي الخاص المثلّث اللغات الأهم . لم يُختَرَق النظام لا في المرة الأولى ولا الثانية. وكما كتبتُ العام المنصرم واصفا الحراك المدني بأنه "حراك على طريق المطار" لنُخَبٍ لن تجد خيارا سوى الهجرة القريبة إلى الغرب الذي يتيح لكفاءاتها الاندماج في نظامه المهني والاقتصادي... ها هي لائحة "بيروت مدينتي" وما تمثِّل من الكوادر تبدو وكأنها أيضا سائرة على طريق المطار... طريق الهجرة. فـ"بيروت مدينتي" كالحراك المدني السابق تعبيران نخبويان محدودا التأثير على "الجماهير" في العديد من الأحياء المغلقة (السنية والشيعية) والتي "طُرِدت" من بعضها "بيروت مدينتي".
يمكن القول أن الانتخابات السياسية الوحيدة، من حيث هي السياسة صراع على تحديث النظام السياسي، كانت في بيروت... مع كل الاحترام للمناطق الأخرى وجاذبياتها. والنتيجة أن دموع نادين لبكي كانت الإعلان الأقوى عن مأتم الدولة الفاشلة. دولة كل النظام الطائفي وليس فريقا واحدا بالتأكيد. وهذا المعنى الجوهري لمحاولة "بيروت مدينتي" يجعل كل مناورة أو "انشقاق" مستفيد من الظاهرة صغيرين وهامشيّيْن بل وتافهَيْن.
تحية خاصة لبيروت، مدينتنا التي صَنَعَتْنا ثم ساهمنا بصنعها. تحية لها كمرفأ أفكار وبشر ومؤسسات و التي لا تزال حداثتها وتنوعُّها وعاصِمِيَّتُها تسمح بظواهر حراكية شبابية متقدمة ... ولو على الطريق إلى المطار.