يعيش الرئيس سعد الحريري واحدة من أسوأ المراحل التي مرّ بها منذ دخوله عالم السياسة. هي المرة الأولى التي ينفض عنه جمهوره، وجمهور حلفائه. نتائج انتخابات بلدية بيروت أول من أمس كشفت الكثير من الثغر التي ترقى إلى مستوى الفضيحة. «لائحة البيارتة» التي قاد الحريري بنفسه حملتها الانتخابية في أحياء العاصمة، وجمعت غالبية أحزاب السلطة، نالت أقل من 10 في المئة من أصوات أهل العاصمة.
أما منافسوه، فحصدوا، متفرقين، نسبة قريبة. حتى الساعة الواحدة من فجر اليوم، وفيما كان فرز الأصوات لا يزال مستمراً من قبل اللجان القضائية في البيال، أوردت مصادر متطابقة نتيجة شبه نهائية، تشير إلى نيل لائحة البيارتة أكثر من 41 ألف صوت، في مقابل نحو 29 ألف صوت للائحة «بيروت مدينتي».
وحازت مرشحة اللائحة الأخيرة، نادين لبكي، أكبر عدد من الأصوات بين معارضي لائحة تحالف السلطة. وترددت مساء أمس معلومات عن تمكنها من اختراق لائحة السلطة، قبل أن تقلب أصوات المزرعة المشهد.
فيما لم يلامس الوزير السابق شربل نحاس، بحسب ماكينات انتخابية، عتبة الـ10 آلاف صوت. أما مرشح جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش)، فنال أكثر من 10 آلاف صوت. ويقول «الأحباش» إنهم منحوا جميع أصواتهم لـ20 مرشحاً من لائحة البيارتة، بناءً على تفاهمات مع قوى سياسية مشاركة في اللائحة. إذا صح هذا القول، فهذا يعني أن النتيجة كادت أن تكون أكثر سوداوية لتيار المستقبل مما هي عليه الآن. هذه الأرقام مرعبة للحريري.
أفرزت النتائج أزمة ثقة
حادة بين الحريري وشركائه في اللائحة، وعلى رأسهم القوات
كان بمقدور قوى 8 آذار وحدها أن تُسقِط لائحته، فيما لو قررت يوم الانتخابات حشد أصواتها لتصبّ في مصلحة «بيروت مدينتي» ونحاس ومرشح «الأحباش»! وهذه الأرقام ربما كانت السبب الذي دفع ماكينة تيار المستقبل الانتخابية إلى عدم إعلان النتائج غير الرسمية الموجودة في عهدتها، والتي جمعتها من مندوبيها في أقلام الاقتراع أول من أمس. فكل مندوب يحصل على نتيجة الفرز الذي يجريه رؤساء الأقلام في مراكز الاقتراع، قبل إحالة الصناديق والنتائج الاولية على لجان القيد. ويكفي جمع هذه النتائج الجزئية لتظهر النتيجة الإجمالية.
«ثمة حاجة لمراجعة جدية»، يقول وجه بارز من وجوه الحريرية السياسية. وهذه المراجعة هي لأداء الحريري وفريقه. لا يمكن الأخير أن يستمر «ببيع» الناس «اعتدالاً» و»مناصفةً» «لأ للسلاح» و»ليسقط النظام السوري» وما إلى ذلك من شعارات. ثمة كفاءة مفقودة، سياسياً، وإنمائياً، وبلدياً، وخدماتياً... إضافة إلى الشحّ المالي الذي يعاني منه. لم يقدّم الحريري منذ دخوله عالم السياسية أي مبادرة إنمائية أو انتخابية توحي بأن في فريقه من يفكّر خارج صندوق «العمل السياسي التقليدي»، القائم على تزفيت الطرقات وإنشاء أرصفة وإقامة شبكة صرف صحي، والاستفادة من بقرة خزينة الدولة الحلوب.
أزمته التي استجدّت أول من أمس هي مع الحلفاء. الأرقام الرسمية أمس أظهرت أن «بيروت مدينتي» حصلت على 9 آلاف صوت في دائرة بيروت الأولى (الأشرفية والرميل والصيفي)، في مقابل 6700 صوت للائحة البيارتة. الحريري لم يخف عتبه على شركائه المسيحيين في اللائحة. «وحدهم الطاشناق التزموا معنا»، يقول مستقبليون. أما القوات والتيار الوطني الحر والوزير ميشال فرعون، فقد سمعوا من الحريري في خطاب ألقاه أمس بمناسبة «فوز لائحة البيارتة» كلاماً واضحاً من دون أن يسميهم. قال: «هناك حلفاء فتحوا خطوطاً لحساب مرشحين من خارج اللائحة، بشكل كان من الممكن أن يهدد المناصفة، وهذا أمر لا يشرف العمل السياسي ولا العمل الانتخابي». الرجل مستاء للغاية من القوات اللبنانية بالدرجة الأولى. يُدرك المحيطون به الأزمة التي واجهت التيار الوطني الحر في الأشرفية، وانقسام مناصريه بين مؤيد للتحالف مع المستقبل في بلدية بيروت وبين معترض عليه، وانكفاء جزء منهم عن التصويت. لكنهم لا يتفهمون ذلك. كذلك فإنهم أخذوا علماً بمشكلة حزب الكتائب و»حرَد» النائب نديم الجميّل بسبب عدم منحه ما يريده على لائحة المخاتير. لكن الحريري لم «يبلع» أداء القوات اللبنانية. وردت يوم الأحد معلومات تشير إلى أن القوات لم تعمل بكامل قوتها في بيروت، وأن مناصرين لها منحوا أصواتهم لـ»بيروت مدينتي»، في محاولة لمعاقبة رئيس تيار المستقبل على موقفه الداعم للائحة الكتلة الشعبية في زحلة. يردّ الحريريون بـ»أننا لم نغدر. في زحلة كان موقفنا واضحاً. أما في بيروت، فنحن كنا في تحالف». ما جرى في «بيروت الأولى» يرونه غدراً، لا أكثر ولا أقل. ويقول مستقبليون: «كان بمقدورنا تأليف لائحة لا نعطي فيها الأحزاب المسيحية إلا العدد الذي نريده، بمعنى أن يسمي تيار المستقبل بعض الأسماء المسيحية، خصوصاً أن التيار يضم في كتلته نواباً مسيحيين عن بيروت. والنتيجة التي كنا سنحصل عليها لن تكون مختلفة عن تلك التي حصلت عليها اللائحة الائتلافية، بما أنها لم تستفد من أصوات الناخبين التابعين للأحزاب والتيارات التي تحالفنا معها».
العتب يطاول النائب وليد جنبلاط أيضاً. لكن ما يشفع له أن مناصريه في بيروت قليلو العدد نسبة إلى الكتل الأخرى. وحاول بعض المستقبليين اتهام الرئيس نبيه بري بعدم التزام «لائحة البيارتة»، قبل أن يذكّرهم زملاء لهم في التيار بأن نحو نصف أصوات المقترعين الشيعة صبّ لـ»البيارتة»، وهي النسبة المتوقعة من ماكينة حركة أمل، لكونها لا تمون على جميع الناخبين الشيعة في بيروت، وخاصة في ظل مقاطعة حزب الله للانتخابات البلدية، وبالتالي، «تسرّب» جزء من جمهوره للتصويت بلا توجيه. لكن كل ذلك لا يخفي واقع «تهرّب» الجزء الأكبر من جمهور الحريري من الاستجابة إلى دعواته المتكررة للاقتراع.
قسوة فضيحة الـ10 في المئة ضاعفت منها آلية فرز الأصوات الشديدة البطء، وما رافقها من اتهامات بالتزوير أطلقها معارضو السلطة عبر مواقع «التواصل الاجتماعي». علماً بأن وزارة الداخلية أكّدت ليلاً أن الذين يجرون الفرز هم قضاة لا صلة للوزارة بهم. وتحدّثت المصادر عن بطء القضاة وعدم تمتعهم بخبرة في عمليات فرز الأصوات. وأشارت الماكينات الانتخابية إلى سوء إدارة لعملية الفرز، مع وجود نقص حاد في عدد الأشخاص المكلفين هذه العملية، إضافة إلى خلط الأقلام وعدم فرز كل واحد منها على حدة.