يخسر رؤساء الوزراء سلطتهم في تركيا في العادة عندما يخسرون الانتخابات النيابية أو عند حدوث انشقاقات في أحزابهم، لكن ذلك لم يحدث مع رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، حيث فاز حزبه في الانتخابات الأخيرة بأغلبية أهلته لتشكيل الحكومة من دون شريك. وبرغم ذلك، فقد طويت صفحته الأسبوع الماضي، بسبب خلافاته مع رجل تركيا القوي وزعيمها الأوحد رجب طيب أردوغان. ابتدأ مسلسل النهاية سريعاً ومتلاحقاً: نُزعت صلاحيات داود أوغلو رئيس «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تعيين المجلس التنفيذي للحزب والمكون من خمسين عضواً، كما غُلت يداه كرئيس للحزب في تعيين ممثلي الحزب في المدن والأحياء. ببساطة تُرك داود أوغلو بلا صلاحيات فعلية على قارعة طريق السلطة التركية. لم يتبق أمام «الخوجة» سوى احتمالين اثنين: البقاء رئيساً للوزراء من دون صلاحيات فعلية أو الرحيل مكرهاً؛ فاختار الاحتمال الثاني. دخل داود أوغلو «التجربة التركية» في أوجها، وتركها وهي محض «تجربة أردوغانية» تعاني وطأة الزعيم الأوحد؛ الذي لم يعد يفصله عن أقرانه من رؤساء الجمهوريات العربية سوى ذلك الدستور التركي المتميز، الذي يريد الآن أردوغان تفصيله من جديد على قياسه وقيافته.
من عالم الرؤية إلى دهاليز السياسة
أخرج داود أوغلو كتابه «العمق الاستراتيجي» في العام 2001 إلى العالم، ذلك الكتاب الذي حوى رؤاه وأفكاره حول تركيا والمنطقة والعالم؛ فحرك رواكد كثيرة ـ بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف مع تلك الرؤى والأفكار. لم يخف «الخوجة» طموحه العارم لتحويل تركيا إلى قوة عظمى، إذ لم يعجبه موقع بلاده الجيو ـ سياسي على أطراف العالم الغربي، فأعاد إحياء فكرة تأسيسية: تركيا مركزاً للحضارة الإسلامية. صعد داود أوغلو من عالم الأفكار والرؤى إلى مسرح السياسة، وليس من بيروقراطية وزارات الخارجية الشرق أوسطية التي يجيد أفرادها عقد ربطات العنق أكثر بكثير من معرفتهم بشؤون المنطقة والعالم. سيطرت على وجدانه أفكار وتعبيرات مثل «نهر التاريخ» و«الأمة التركية لا تقرأ التاريخ بل تكتبه»، فعاش داود أوغلو مؤمناً بفانتازيا التاريخ والقيادة، مُلهماً تلك السردية لمناصري «حزب العدالة والتنمية»، ومالئاً فراغ السياسة الخارجية لدى مؤيدي تيار الإسلام السياسي في تركيا وخارجها.
طاف داود أوغلو العالم من ماليزيا حيث ألقى محاضراته إلى القاهرة التي تعلم فيها العربية، وحل خطيباً مفوهاً على ندوات تستعصي على الحصر من المنطقة العربية إلى ما وراء المحيط الأطلسي. هالة الرؤى التي حملها داود أوغلو معه وُضعت على محك التجربة العملية عندما اختاره عبد الله غول أول رئيس وزراء عن «حزب العدالة والتنمية» العام 2002 ليصبح مستشاراً شخصياً له برتبة «سفير».
صاغ داود أوغلو نظرية «صفر مشاكل مع الجيران» فهندس عودة تركيا إلى الشرق الأوسط وكسب اهتمام وتعاطف الباحثين، قبل أن تنقلب النظرية إلى عكسها مع قيام «الربيع العربي». عينه أردوغان وزيراً للخارجية العام 2010 فيما بدا وقتها نقطة الذروة في «تجربة تركية» باعثة على الإعجاب، تناغمت فيها سوياً شخصيات مثل أردوغان رئيس الوزراء، وعبد الله غول رئيس الجمهورية، وبولنت أرينتش رئيس البرلمان، وأحمد داود أوغلو وزير الخارجية. وحين أطاح أردوغان برفيق دربه التاريخي عبد الله غول، صعد داود أوغلو إلى رئاسة الوزراء مباشرة في صيف العام 2014. في ذلك الصيف ارتأى أردوغان قطع الطريق على عبد الله غول للعودة إلى رئاسة الوزراء، فقام بتنظيم مؤتمر عام للحزب قبل يوم واحد من انتهاء فترة ولاية غول الرئاسية ليمنعه من التقدم للانتخابات الحزبية، مُثبتاً داود أوغلو مكانه. مثلت تلك الواقعة النهاية الفعلية «للتجربة التركية» وتتويجاً «للتجربة الأردوغانية». لم يعد أردوغان يطيق شركاء يتوافقون معه في الأفكار، وإنما أراد موظفين يطيعون الأوامر. وعندما أظهر داود أوغلو كرئيس للوزراء استقلالية نسبية عن أردوغان في إدارة شؤون الدولة لجهة التوافق مع الأحزاب المنافسة أو معارضة حبس الصحفيين أو الحوار مع الأكراد، فقد أصدر أردوغان الحكم بالنهاية السياسية لداود أوغلو أيضاً. وفوق ذلك، أبى أردوغان إلا أن يترك داود أوغلو الساحة مجللاً بالولاء له، ما يمنع عنه أي فرصة لأدوار من بعده حتى. هكذا طويت صفحة داود أوغلو، مثلما طويت صفحات عبد الله غول وبولنت أرينتش وياشار ياكيش من قبله.
«التجربة الأردوغانية» إلى أين؟
تعاني تركيا من هيمنة «الزعيم الأوحد» على مفاصل السلطة والحزب الحاكم وتفرده بالقرارات المصيرية داخلياً وخارجياً، ونزوعه نحو الإمساك بخيوط السلطة والقرار منفرداً. وفي هذه الإندفاعة يغيب التعقيد اللازم لسياسة دولة إقليمية كبرى بحجم تركيا، فيمكن للمتابعين التكهن بيسر وسلاسة بالخطوات التالية. تتمثل الخطوة التالية مباشرة في تعيين رئيس جديد للحزب الحاكم وبالتالي للوزارة، بشرط أن يكون مطيعاً لأردوغان وفاقداً للكاريزما، قبل الانتقال للخطوة الكبيرة بعدها والمتمثلة في تغيير الدستور. تبرز ثلاثة أسماء من الحلقة الضيقة حول أردوغان تنطبق عليها شروط رئيس الوزراء من المنظور الأردوغاني: بيرات البيرق، وزير الطاقة وزوج ابنة أردوغان سمية، عمره ثمانية وثلاثون عاماً، لكن مشكلته تتمثل في صغر سنه وعدم خبرته. وهناك بينالي يلدريم، وزير النقل وعمره واحد وستون عاماً، يبدو الأوفر حظاً بسبب ولائه المطلق لأردوغان. إلى جانب بكير بوزداغ وزير العدل، وعمره واحد وخمسون عاماً، ويذكر للأخير أن «إصلاحاته» ساهمت في تقييد سلطة القضاء في تركيا بالسنوات الأخيرة. في يوم الثاني والعشرين من الشهر الجاري، سيجتمع الآلاف من ممثلي «حزب العدالة والتنمية» لانتخاب رئيس جديد للحزب، وقبلها بأيام سيعلن أردوغان عن مرشحه المفضل، الذي سيتقدم وقتها للانتخابات منفرداً ليحصل تلقائياً على غالبية الأصوات؛ ومن ثم يعينه أردوغان رئيساً للحكومة.
يريد أردوغان في الخطوة ما بعد تعيين رئيس جديد للوزراء أن ينقل صلاحيات رئيس الوزراء إلى رئاسة الجمهورية التي يتربع عليها، لذلك يروم تحويل النظام السياسي التركي من جمهورية برلمانية إلى جمهورية رئاسية. تتمثل العقبة الآن في عدم امتلاك حزب أردوغان الحاكم (317 مقعداً) للأغلبية البرلمانية اللازمة لفرض الدستور الجديد في البرلمان (367 مقعداً)، ولا الأغلبية الأقل (330 مقعداً) التي تسمح بتحويل مشروع الدستور الجديد إلى استفتاء شعبي.
تنفتح مروحة الاحتمالات الشمولية أمام أردوغان بتعاون ممكن مع «حزب الحركة القومية» اليميني المتطرف بزعامة دولت باهتشلي للحصول على ثلاثة عشر صوتاً منه لتحويل مشروع الدستور الجديد من البرلمان إلى استفتاء شعبي، أو إسقاط عضوية نواب من «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي بتهمة التعاون مع منظمة إرهابية هي «حزب العمال الكردستاني»، وإعادة إجراء الانتخابات في دوائرهم ووضع نواب من «حزب العدالة والتنمية» محلهم؛ وبالتالي الوصول إلى النسبة اللازمة لتعديل الدستور. وفي النهاية لا تُستبعد إمكانية إجراء انتخابات نيابية جديدة ومنع «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي من تخطي حاجز العشرة في المئة اللازمة للترشح في البرلمان. ولا يخفى على فطنة أحد، أن جل هذه الاحتمالات تكرس الطابع الفردي والشمولي «للتجربة الأردوغانية» المفتقرة إلى قيمة التنوع ومعايير المحاسبة والشفافية. يسير أردوغان بنشاط على طريق السلطة المطلقة بما فيها السيطرة على القضاء والإعلام وحبس المخالفين ومحاصرتهم وتسييد فئة قليلة غير منتخبة من المستشارين حوله، وهي «تجربة» سبق لدول شرق أوسطية كثيرة أن جربتها واختبرت نتائجها الكارثية المحتومة. تحولت الديموقراطية التي ميزت «التجربة التـركية» ـ بما لها وما عليها ـ إلى مجرد «عملية» للحصول على أغلبية برلمانية في «التجربة الأردوغانية»، غرضها الوحيد فرد عباءة انتخابية ما على الزعيم الأوحد ورغباته. وإذ خسرت «التجربة التركية» كاريزما عبد الله غول وحماسة بولنت أرينتش وقامة ياشار ياكيش وتفقد الآن رؤى داود أوغلو وأفكاره، وكلها مؤشرات أن نهاية «التجربة الأردوغانية» لن تكون مختلفة عن نظيراتها في الجمهوريات العربية.. مهما طال الزمان أو قصر!