بعد انقطاع طويل عن كل أشكال التصويت والديموقراطية، بلغ حد «الجفاف».. جرت أمس الجولة الاولى من الانتخابات البلدية والاختيارية في بيروت والبقاع في موعدها المقرر، من دون تسجيل حوادث بارزة، وهذا في حد ذاته حدث يرقى الى مستوى الإنجاز في زمن التمديد الذي ثبت انه «قهري»، لا «قسري»، كما حاولت ان تروج سابقا بعض مراكز القوى في السلطة المتآكلة.
أما على مستوى النتائج الاولية، فإن صناديق بيروت وبعلبك والهرمل وبريتال لم تحمل مفاجآت سياسية، مع فوز لائحة «البيارتة» في العاصمة، وتقدم لوائح ثنائي حزب الله ـ حركة أمل وحلفائهما في البقاع.
لكن الصورة بقيت حتى ساعة متأخرة من ليل أمس غير مكتملة في زحلة، وسط تضارب في ارقام الماكينات الانتخابية للوائح الاحزاب المسيحية و «الكتلة الشعبية» وموسى فتوش، وإن تكن مصادر تحالف الاحزاب قد أكدت تقدم التحالف، خصوصا في الاقلام المسيحية، في انتظار حصيلة الاقلام السنية والشيعية.
ماذا عن تفاصيل اليوم الانتخابي الطويل؟
أمس، سقطت الأوهام المفتعلة التي عممتها الطبقة السياسية على مدى سنوات حول عدم ملاءمة الاوضاع الامنية والظروف المحلية والاقليمية لإجراء أي انتخابات، فكان التمديد الاول ثم الثاني لمجلس النواب، وكان الشغور الرئاسي «المستدام»، بحجة الضرورات التي تبيح المحظورات.. قبل ان يتبين البارحة، بالعين المجردة، ان بإمكان اللبنانيين ان يقترعوا، ويتنافسوا، بشكل طبيعي من دون ان تنعكس الازمة السورية وحرب اليمن وتظاهرات العراق والتجاذبات الروسية الاميركية على سلامة العملية الانتخابية.
وحتى عرسال، المعروفة بوضعها الامني الحساس، نتيجة وجودها على تماس مباشر مع الارهاب التكفيري، خاضت الاستحقاق البلدي بكثافة ونجاح، في تحد للجماعات المسلحة، وحتى لمنطق السلطة الذي كان يتسلح في السابق بخصوصية واقع عرسال لتبرير «موبقات» التمديد..

البارحة، سقطت الذرائع التي تم باسمها تأجيل الانتخابات النيابية، وحرمان اللبنانيين من فرصة اختيار نوابهم، في الموعد الدستوري المحدد، وبالتالي فإن أصوات الناخبين في الاحد البلدي والاختياري بدت بمثابة صرخة ضد الطبقة الحاكمة وإدانة لها، بعدما ثبت بالدليل القاطع انها سلبت المواطنين أحد أهم حقوقهم السياسية والديموقراطية، وفرضت عليهم تمديدا غير مشروع ولا مبرر للمجلس النيابي المنتهية ولايته.
والمفارقة، ان الانتخابات البلدية والاختيارية الناجحة عموما، باستثناء بعض الثغرات والمخالفات الموضعية، إنما تمت في ظل غياب رئيس الجمهورية وشلل مجلس النواب وتخبط الحكومة، ما يعني ان اللبنانيين يملكون قدرا من الوعي والمسؤولية، يمنحهم «اكتفاء ذاتيا» لخوض الاستحقاقات الدستورية بأفضل طريقة ممكنة، حتى لو لم يبق من الدولة سوى الوجود الامني الذي تتطلبه حماية العملية الانتخابية.
ولعل نسب الاقتراع المرتفعة في العديد من المناطق، والتي لامست أحيانا حدود الـ70 في المئة، تعكس توق اللبنانيين الى التعبير عن أنفسهم وخياراتهم، بعد سنوات من «التصحر» والاقامة الجبرية خلف قضبان أمر واقع مهترئ، فاحت منه روائح النفايات والصفقات.

دلالات بيروت

.. وحدها بيروت، اقتصر منسوب الاقتراع فيها على حوالي العشرين في المئة، على الرغم من كل التعبئة التي سبقت الانتخابات، وخصوصا من قبل الرئيس سعد الحريري.
لكن ذلك لم يحل دون فوز «لائحة البيارتة» بكامل أعضائها، وعلى قاعدة المناصفة، وبفارق كبير عن لائحتي «بيروت مدينتي» و «مواطنون ومواطنات»، ما يضع المجلس البلدي الجديد أمام تحدي الإنتاجية والتناغم، في ظل تركيبة متداخلة، تشبه توازنات مجلس الوزراء.
ويمكن القول ان اللائحتين المضادتين حاولتا بإمكانيات متواضعة ان تحركا المياه الراكدة وتصنعا فارقاً ما، إلا ان الاصطفافات السياسية المقفلة وانخفاض معدل الاقتراع وانكفاء المعترضين واليأس من القدرة على التغيير.. كلها عوامل ساهمت في إعطاء الأفضلية للائحة «البيارتة».
ومع ذلك، فإن الفوز الذي حققته لائحة ائتلاف السلطة لا يحجب الحقائق الآتية:
- تراجع وهج «تيار المستقبل» على مستوى العاصمة، بفعل الغياب الطويل لرئيسه عن لبنان وتقلص قدرة شعاراته التقليدية على التأثير في البيارتة الذين اختار قرابة 80 في المئة منهم الامتناع عن التصويت.
- افتقار تركيبة «لائحة البيارتة» الى الانسجام، بعدما ضمت تناقضات نافرة وفاقعة، من قبيل الجمع بين «التيار الوطني الحر» و «المستقبل» في وعاء واحد، الامر الذي انعكس تراجعا في الإقبال المسيحي، وتململا في اوساط جزء من قواعد التيار، بلغ حد الصدام العلني بين فريقي زياد عبس ونقولا صحناوي في الاشرفية وتسرب جزء من الاصوات المسيحية الى لائحة «بيروت مدينتي»، مع الاشارة الى ان الأقلام الارمنية التي تخضع لنفوذ الطاشناق التزمت بلائحة «البيارتة».
- قرف المواطنين من الاحزاب ونقمتهم عليها، بعد تراكم الفضائح والارتكابات طيلة الفترة الماضية وصولا الى جريمة النفايات، فكانت النتيجة انكفاءً احتجاجياً للناس، وبالتالي عجز ائتلاف السلطة الذي ضم مروحة واسعة من القوى المسيحية والاسلامية عن استقطاب الناخبين.
- إخفاق القوى المعارضة لـ «لائحة البيارتة» في توحيد صفوفها وتقديم بديل متكامل، ما أدى الى تبعثرها وتوزعها على لائحة «بيروت مدينتي» ولائحة الوزير شربل نحاس غير المكتملة «مواطنون ومواطنات».
- شعور شريحة واسعة من الناخبين بأن أصواتهم لن يكون لها وزن أو تأثير نتيجة عدم اعتماد النسبية في الانتخابات.

حرارة زحلة

.. لكن الصورة اختلفت في زحلة، حيث رفعت ضراوة المنافسة بين لوائح الاحزاب المسيحية و «الكتلة الشعبية» وآل فتوش نسبة التصويت الى 41 في المئة، وسط توازن قوى في الشارع المسيحي، منح الصوتين الشيعي والسني «قيمة مضافة»، علما ان «حزب الله» اعتمد خيارا عابرا للوائح المتصارعة، من خلال التصويت حصرا لمرشحي «التيار الوطني الحر» و «الكتلة الشعبية» وفتوش.
وليس خافيا، ان انتخابات زحلة التي اتخذت الطابع السياسي الاوضح، شكلت الاختبار الميداني الاول، بـ «الذخيرة الحية»، لتفاهم «التيار الحر» - «القوات اللبنانية»، إضافة الى انها بدت محكا لتماسك تحالف «حزب الله» - «التيار»، ولمحاولات إنقاذ تحالف «المستقبل» - «القوات».
وفيما سُجل تراجع في حضور المال السياسي على مستوى الجولة الاولى من الانتخابات عموما، قياسا على الاستحقاقات السابقة، تردد ان الاستخدام الاوسع لسلاح الرشى تم في معركة زحلة، حيث ضبط «فرع المعلومات» بالجرم المشهود عملية رشوة علنية، في وضح النهار.

رسالة بعلبك

أما في بعلبك وبريتال، فقد اتسم التنافس ببُعد سياسي، تجاوز الاطار الانمائي أو العائلي المحض، وهذا ربما ما يفسر حرص نائب الامين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم على الانتقال الى البقاع، والمشاركة الشخصية في ادارة غرفة العمليات الانتخابية، وكأن الحزب يريد ان يؤكد ان انشغاله بالجبهة السورية وبرصد الخطر الاسرائيلي على الحدود الجنوبية لا يمنع اهتمامه بتحصين الجبهة الداخلية وبالدفع في اتجاه توليد مجالس بلدية تواكب احتياجات بيئته الحاضنة ومطالبها الانمائية.
وكانت لافتة للانتباه، نسبة الاقتراع المرتفعة في منطقتي بعلبك والهرمل، في انعكاس لقدرة تحالف «حزب الله» - «حركة أمل» على التعبئة الشعبية من جهة، ولحرارة المنافسة في بعض الاماكن من جهة أخرى، لا سيما في مدينة بعلبك حيث كانت المبارزة بين لائحة تحالف «حزب الله» و «أمل» و «القومي» و «البعث» و «التيار الحر» و «جمعية المشاريع» برئاسة العميد المتقاعد حسين اللقيس، ولائحة رئيس البلدية الاسبق غالب ياغي المتمايزة سياسيا والمؤلفة من ممثلين عن العائلات.
وفي بلدة بريتال، تنافست لائحة «التنمية والوفاء لنهج الشهداء» المدعومة من «حزب الله»، مع لائحة «إنماء بريتال» التي ترأسها رئيس بلدية بريتال منذ عام 1998 عباس اسماعيل والمدعومة بشكل رئيسي من بعض العائلات، والتي قيل إنها تحظى ايضا بدعم الشيخ صبحي الطفيلي، فيما انسحبت «حركة أمل» من الانتخابات تاركة لعناصرها حرية الاختيار.
الى ذلك، يُرجّح ان تترك نتائج انتخابات بيروت والبقاع انعكاسات على تركيبة اللوائح والتحالفات في المناطق الاخرى، لا سيما في طرابلس التي ستتأثر بشكل أو بآخر بما حققه «تيار المستقبل» في بيروت، وسط معلومات تفيد بأن الحريري سيحسم مفاوضاته مع الرئيس نجيب ميقاتي حول اللائحة التوافقية في عاصمة الشمال تبعا لما أفضت اليه صناديق بيروت.
كما سيستفيد الثنائي الشيعي من تجربة البقاع وآلياتها التطبيقية، بنقاط قوتها وضعفها، في مقاربة انتخابات الضاحية والجنوب