لا لأنه رفع نقابياً إلى موقع الأمين العام، بل لأن الحزب الشيوعي لم يعالج، في مؤتمره، سوى مادة واحدة من النظام الداخلي، سبق أن تم خرقها أكثر من مرة، وبسببها تأجل المؤتمرالحادي عشر لأكثر من عامين.
لم تعر قيادة الحزب، ولا معارضاتها، انتباهاً لما يحل بالوطن وبالأمة، واكتفى المتنازعون على السلطة بإجراء تسوية "تنظيمية" تسهل إخراج المؤتمر من عنق الزجاجة. وقد قضت التسوية بتعديل تلك المادة بما يسمح لكل أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية الترشح المحظور عليهم قبل التعديل، مشترطاً لنجاح أي منهم الحصول على خمسين بالمئة من الأصوات.
هذه هي حدود "الانجاز" الذي تحقق. لأنه ما كان ممكناً أن يترشح حنا غريب ويفوز بمنصب الأمين العام من غير تعديل تلك المادة. لم يكن من ضمن جدول عمل القيادة أي بحث في أزمات لبنان المتفاقمة ولا في فساد الطبقة السياسية الحاكمة، ولا في أحداث الربيع العربي، ولا هي انتبهت إلى أن الاتحاد السوفياتي زال عن الخريطة وأن روسيا الاتحادية لم تعد شيوعية حتى لو كان بوتين من خريجي الكا جي بي ، ولا انتبهت إلى أن صيغ الصراع في العالم لم تعد بين معسكري وارسو والأطلسي، وأن العصر لم يعد "عصر الانتقال إلى الاشتراكية"... كل هم القيادة ومعارضاتها كان منصباً على تعديل تلك المادة.
المعارضة رأت في النتائج انتصاراً صريحاً على السلطة الحزبية، ذلك أنها تمكنت من الفوز بثلثي المقاعد في اللجنة المركزية. كان الانتصار مجرد تخيل أو ضرباً من التمني، لأن التنافس لم يكن بينهما على مشروعين سياسيين، غير أن المؤتمر حقق إنجازاً مزدوجاً صريحا لا ريب فيه. فهو أثبت، قيادة ومعارضة، أن التغيير ممكن من غير تخوين، وأن من الممكن احترام حق الاختلاف، ومن الممكن أيضا تداول السلطة من خارج أسلوب التعيين وباعتماد الاقتراع بدل الاستفتاء. كما أثبتت المعارضة أنها أحسنت التصويب على أكثر العناصر القيادية سوءا واستبعدتها بما بدا عقوبة مستحقة لمجموعة أمسكت بمفاصل العمل الحزبي منذ الطائف وبعثرت الشيوعيين وعبثت برصيد الحزب الكبير الذي صنعه مناضلون في قيادة الحزب وفي قواعده على كل المستويات.
من ناحية أخرى يمكن القول إن أبواب التغيير الفعلي ما زالت موصدة ، وذلك لأن المعارضات المتعددة متشابهة من الناحية السياسية ، وتكاد لا تختلف اختلافاً نوعياً عن السلطة الحزبية. وقد بات معروفاً أن قيادة الحزب اختارت نهج الممانعة والتحقت بالقوى الحليفة للنظام السوري، وصمتت عن مجازره، ووقفت ضد أحداث الربيع العربي ودعمت سياسة حزب الله على حساب السيادة الوطنية اللبنانية، ولم تعترض المعارضة على أي من هذه المواقف، بل إن أحد أطراف المعارضة الذي قررت القيادة فصله من الحزب لأسباب غير سياسية(علاء المولى)، نظم مؤتمراً لدعم النظام السوري بالتعاون مع الأردني ناهض حتر، فيما طرفها الثاني( سعدالله مزرعاني) وقد فصلته القيادة أيضاً بعد أن اتهمته ببيع جريدة الأخبار وبيع إحدى الموجات الخاصة بإذاعة صوت الشعب. طرفان معارضان من خارج التنظيم مع أنهما مؤيدان لنهج القيادة السياسي، بل يعيبان عليها قصورها عن الاستلحاق الاندماجي بقوى الممانعة.
أهم رموز المعارضة التي لم تتعرض للفصل من التنظيم هو الأمين العام الأسبق فاروق دحروج الذي أدار الأزمة الحزبية بعد استقالة جورج حاوي من غير أن يحمل، هو الآخر، أي مشروع سياسي، مبدداً إنجازات المؤتمر السادس، الأكثر أهمية بين المؤتمرات المنعقدة بعد انهيار الاشتراكية والاتحاد السوفياتي، غير أن موقفه السياسي لا يختلف كثيراً عن سواه من حيث انحيازه إلى جبهة الممانعة. ولهذه الأسباب بدا اعتراضه قليل الأهمية لأنه لا ينطوي على أي نقد سياسي لسياسة القيادة، بل إنه اختار التنسيق والتحالف مع "المفصولين"، حاكما على معركته بالخسارة المسبقة، لأن فريقاً جديداً من المعترضين بدأ يلمع نجمه، وهو في معظمه من جيل الشباب، وهذه نقطة إيجابية، هذا الفريق هو الذي كسب المعركة وأطاح برموز القيادة السابقة.
مشكلة هذا الجيل الجديد أنه لا يحمل جديداً غير اندفاعه وحماسته لمثل عليا ومبادئ، تدور كلها، من الناحية النظرية، في فلك العدالة الاجتماعية وتتعارض عملياً مع الحرية والديمقراطية، من هنا كان وجه الشبه كبيراً بين الشيوعية والأديان في حمل راية الأولى ومجافاة الثانية. جيل حفظ بعض الكليشيهات عن الصراع الطبقي والنهب الرأسمالي والثورة، من غير أن يقرأ من الماركسية حتى نسختها السوفياتية، ويتغنى بمهدي عامل من غير أن يطلع على كتب مهدي عامل الصعبة الصياغة ولا على نظريته في نمط الانتاج الكولونيالي، ويمجد آخر نسخة من المقاومة من غير أن يدقق في الأسباب التي أوصلت مقاومة الحزب الشيوعي إلى نهايتها المأسوية. جيل نشأ في ظروف طبعت الصراع داخل الحزب أو داخل الوطن بطابع المناكفات ومجافاة الرأي الآخر، فانطبعت في ذهنه صورة القيادة الأمية التي لم يبرز في صفوفها مفكر أو صحافي أو كاتب أو شاعر، وغابت عن ذاكرته صورة المكتب السياسي في حزب لينين الذي كان نصفه من الفلاسفة، ولهذا لم يميز بين الطبقة العاملة بذاتها والطبقة العاملة لذاتها.
معارضة شابة بقيادة مخضرمة، من بين رموزها الأمين العام الجديد. يتمايز عن سلفه بفارق أخلاقي فحسب لأنهما في السياسة ينتميان إلى المشروع ذاته الذي اختار الاصطفاف مع الممانعة وفرط باستقلالية قرار سياسي بنى الحزب الشيوعي مجده عليه. ومن رموزه كمال هاني المثقف الوحيد الدائم الحضور في القيادة وفي المجتمع وفي البحث العلمي، المعروف بانفتاحه الفكري وقدرته على التجدد، لكنه ينتج في بحوثه أفكاراً ويدافع في الحزب عن أفكار سواه.
لا شك أن اليسار حاجة للوطن ولكل الأوطان، غير أن اليسار القديم مات، ومن المستحيل أن يقوم يسار جديد من دون الحزب الشيوعي استحالة قيامه مع هذا الحزب الشيوعي. الجيل الجديد الذي حقق إنجازاً كبيرا في المؤتمر سيبدد إنجازه ما لم يستكمل "ثورته" السلمية، على النهج القديم، بنقد جريء لتجربة الحزب ما بعد الطائف، لأن مسؤولية التدمير لا تقع فحسب على قيادة غير كفء اكتفت بإدارة أزمة الحزب وعجزت عن العلاج، بل على غياب المشروع وغياب القضية، فجعلته طرفاً تابعاً يدافع مجاناً عن قضايا سواه من القوى التي استبعدته وقضت على مقاومته واغتالت مناضليه.