يكتشف الرئيس الأميركي باراك أوباما أن نزاعات المذاهب عند المسلمين قديمة لا طائل من تدخله لتسويتها. ينهلُ الرجل من معارفه فيُفحم محدثه، جيفري غولدبرغ، الذي خطّ “عقيدة أوباما” في “ذا أتلنتيك” الأميركية. ومن ذلك الاستنتاج يبني الرئيس الأميركي حججه مدماكا فوق مدماك ليشيّد بزهو أرفع جدار للعار في تاريخ بلاده.
يتدثّر سيد البيت الأبيض، قبل أشهر من مغادرته الموقع البيت، بفتنة المسلمين الكبرى بعد صفّين ليرسم للعالم معالم عقيدته في القرن الحادي والعشرين. لم يعرف مسلمو العصر الحديث الفتنة بين السنّة والشيعة إلا في كتب التاريخ، ولم تعرف بلدان الاستقلالات منذ منتصف القرن الماضي أثرا لتلك الفتنة بمعناها الحقيقي المتوّرم. انتهى فكر الناس وحكامهم في التراقص بين اليسار واليمين، وعلى حبال الممسكين بالحرب الباردة. وحتى حين قامت الجمهورية الإسلامية في إيران، فلم ينقسم الناس مذهبيا، بل كانوا بين من ناصر الفكر الثوري من كل الأعراق والمذاهب، ومن عاداه من كل الأعراق والمذاهب.
لم تكن الحرب العراقية الإيرانية حربا بين السنّة والشيعة. كانت ببساطة بين بلدين ونظامين ومنطقين. ومن ناصر العراق أو إيران من العرب كان يناصر مصالح ويخشى من أخطار على مصالح. هل يجب التذكير بأن الشيعة العراقيين إلى جانب مذاهب أخرى في الجيش العراقي هم من تواجهوا حربا مع الشيعة الإيرانيين إلى جانب مذاهب أخرى في الجيش الإيراني، حتى أن استعادة صدام حسين لذكرى القادسية هي تذكير بأن لبّ الصراع هو بين عرب وفرس، وليس بين سنّة وشيعة.
لم تعرف المنطقة، بعربها وفرسها وأتراكها، الفتنة التي يتحدث عنها أوباما، إلا بعد أن عبث بلده بأحشاء اللحمة الاجتماعية والثقافية للعراق. ارتكبت واشنطن عن سابق تصوّر وتصميم جريمة تصنيف العراقيين سنّة وشيعة، عربا وأكرادا، منذ التئام المؤتمرات الأولى للمعارضة العراقية في الخارج، وإذا ما وَجدت داخل العراقيين استعصاء لاغتيال الشخصية العراقية واستيلاد مسخ لا يشبه العراقيين، فإن جيش أقوى دولة في العالم فرض بالنار منطقا على المترددين في ابتلاعه. وكان لحاكم البلد المحتل، بول بريمر، صولاته وجولاته في نفخ الورم وتحويله خبيثا ينهش في جسد كل المنطقة.
يبيع أوباما في حديثه عن الفتنة التاريخية عند المسلمين بضاعة جوفاء لا يستقيم داخلها منطق علمي وجب أن يمتلكه من عمل في هارفرد القديم. ولئن استطاع رجل أميركا الحالي التبرؤ من خطيئة سلفه، فإن أداء أوباما على مدى السنوات التي تلت انتخابه ستحفر علامة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة ليس فقط بسبب الفعل لكن أيضا بسبب الغياب اللئيم لأي فعل.
قد لا يختلف تقييم المنطقة العربية لرئيس الولايات المتحدة الحالي عن تقييم أيّ رئيس سابق كما أي رئيس لاحق. فالثابت في عرف الوجدان الجماعي العربي أن الولايات المتحدة تقف دون تردد مع المحتل الإسرائيلي وتتعهد بتغطية غيّه وجرائمه وحروبه ضد العرب دولا وأنظمة وفصائل وشعوب. تعرف واشنطن ذلك، وتدرك أن مشاعر الكره ضد الولايات المتحدة متأصلة، إلى درجة أن إدارتها شكلت بعد حدث 11 سبتمبر لجنة أوكلت قيادتها إلى الدبلوماسي الشهير إدوراد جيرجيان للتحرّي في السؤال الأليم: لماذا يكرهوننا؟ لكن ما ارتكبه أوباما أقسى في وقعه عما ارتكبته أيّ إدارة أميركية سابقة ذلك أنه يسقط نهائيا أيّ أمل في تحسين صورة الولايات المتحدة في الوعي العربي العام.
معضلة أوباما هي أن انتخابه يمثّل أعلى لحظة نضج داخل المجتمع الأميركي، ذلك أن الأميركيين “ارتكبوا” بحماسة انتخاب أول رئيس أسود للبلاد، ثم أعادوا انتخابه بإمعان مؤكدين تطوّر نظرتهم إلى البيت الأبيض وهوية ساكنيه. خرج من تلك اللحظة/ الحدث ذلك المخلوق السوريالي صاحب شعار “نعم نستطيع”. حمل الأميركيون الرجل الذي لا يشبههم ليكون رئيسا؛ فقد عارض حرب العراق عندما كانوا يطبّلون لها، وانخرط في فهم المسألة الفلسطينية حين كانوا يتجاهلونها، وروّج لتعريف آخر لأميركا حين كانوا لا يرون فيها إلا الزعامة المتغطرسة الوحيدة في هذا الكون. أطل أوباما على العالم من خلال كلماته “لنغير العالم من خلال تغيير أميركا”. وبعد تسعة أشهر على دخوله البيت البيض منحه العالم، بغرابة، جائزة نوبل للسلام.
لم يطلب أهل منطقتنا شيئا من رجل أميركا الجديد. تعوّدوا الخيبة من كل الرؤساء السابقين، ولم يكن يغيّر شيئا بالنسبة لهم أن يكون الرئيس أسود يحمل اسم “حسين” في ثنايا اسمه. هو الذي أتاهم حاملا إلى القاهرة وإسطنبول وعودا وصلوات، فكان، وكعادتهم، أن صدقوه حتى الثمالة. مشكلة أوباما الكبرى أن المنطقة برمتها هذه المرة، بشعوبها وأنظمتها، -وهو أمر لا سابق له- تنتظر بفارغ الصبر رحيله وزوال ذكراه. ومشكلة أوباما أن شخصية مثله لم تفعل شيئا، لا بل زادت الكوارث أثقالا في عهده، يعني أن لا شخصية أخرى بإمكانها أن تفعل شيئا من بعده.
في عهد باراك أوباما بات عدم الفعل دستورا تأسيسيا لدولة عظمى بحجم الولايات المتحدة. قد تلامُ إدارات واشنطن السابقة على ما فعلته في يوغسلافيا والكويت وليبيا وأفغانستان والعراق إلخ، ففي ذلك وجهات نظر تتباين وتتعدد. لكنّ في نأي رجل واشنطن الحالي بنفسه عن أي سياسة مارسها رجلها السابق تبسيطا جبانا لا يليق بوظائف الدولة العظمى، الأخلاقية واللأخلاقية. الجريمة، وهي وصف علمي إذا ما أدرج في إطار الكارثة السورية، أن أوباما يعرف أن العالم برمته، بما في ذلك خصوم الولايات المتحدة الكبار، يعمل وفق مزاج واشنطن ومزاج رئيسها، وأن إخفاء رأسه في الرمال شلّ عواصم أوروبا وقواها عن الفعل، فبات ردّ الفعل في حضنها تردّه جاهدة برفع الأسوار ضدّ ما تقذفه المأساة من لاجئين.
أسقط جورج بوش الابن دكتاتورا في العراق وأقام نظام الفتنة فيه. يرعى باراك أوباما برشاقة ثمار الفتنة هناك متأملا بذهول تعملق الإرهاب الذي لم يكن موجودا أبدا (ولا أسلحة الدمار الشامل) في هذا البلد قبل إطلالة واشنطن على يوميات العراق. يثبّت أوباما دكتاتورا في سوريا ويلوك كل يوم جملا يخالها صيغا لفكر يريده أن يرتقي إلى مستوى العقيدة. وفي تبرير الفشل لجوء إلى حيل الخاسرين، ذلك أن المشكلة تكمن هناك، في تقاعس كاميرون البريطاني وساركوزي الفرنسي في ليبيا، كما في جمود الثقافة المجتمعية لدول في الخليج، كما في “الفتنة الكبرى” عند المسلمين.
سيسجل لأوباما أن الاستيطان في إسرائيل تضاعف بنسب خيالية في عهديْه، وأن مجموع المساعدات الأميركية لهذا البلد ارتفع بمستويات قياسية مقارنة مع تلك في الإدارات السابقة. وسيسجل للرجل أنه أكثر الرؤساء الأميركيين المكروهين في إسرائيل وأن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو مارس إذلالا لسيّد البيت الأبيض لم يتجرأ عليه أي مسؤول إسرائيلي سابق. وسيسجل لأوباما أنه أخرج إيران من محور الشر ومازال جيرانها يرون فيها شرا، وسيسجل له أنه فقد في المنطقة أصدقاء بلاده التاريخيين في الخليج مقابل التعويل على صداقة محتملة مع إيران الوليّ الفقيه.
هل كذب أوباما أو أنه كان حالما لم تسعفه حقائق اليقظة. لن نصدق بسذاجة أن الرجل لم يكن يعرف ما عرفه لاحقا. انتخبه الأميركيون لأنه رفض حرب العراق، فأحاط نفسه حين ولوج منابر الحكم بشيوخ كونغرس كبار كانوا من عتاة تلك الحرب (جو بايدن نائب الرئيس، هيلاري كلينتون وجون كيري وزيري الخارجية، وتشاك هيغل وزير الدفاع). حين غادر جنده العراق تحدث عن عراق ديمقراطي مزدهر، وحين أعادهم تأمل بخيبة تلك الديمقراطية وذلك الازدهار. وعد بالانسحاب من أفغانستان ولم يفعل، لكنه لا شك فخور بأن عهده أنجز قتل أسامة بن لادن الذي عجز عنه عهد سلفه. مال الرجل إلى أولويات آسيوية على حساب الشرق الأوسط، فكان أن أفقد بلاده بريق الحضور، وراح خصوم بلاده قبل حلفائها يرسمون طقوس غيابه.
طاب للرئيس باراك أوباما أن يجالس طويلا ديفيد رامنيك من “ذا نيويوركر”، وتوماس فريدمان من “ذا نيويورك تايمز” وجيفري غولدبرغ، علّه يقنع أميركا بأنه علامة فاصلة في تاريخ بلاده. لم يحبّ، أبدا، أن يبدع في السياسة الخارجية. لقد أراد تقزيمها لصالح سياسته الداخلية، بمعنى أن يقلص ضغوطها ليتمتع بهامش أرحب في فرض خياراته البيتية. من السهل استنتاج العبث الذي تركه في الخارج، فهل ما أنجزه في البيت يستحق خراب الحدائق؟
العرب: محمد قواص