القضاء ليس بخير.
عنوان يتكرر بين فترة وأخرى. قضاة كثر، يقدرون على تقديم روايات وروايات عن حال السلطة القضائية، التي تفقد الكثير من استقلاليتها. لكن قلة قليلة جداً تجرؤ على تسمية الأشياء بمسمياتها. لا وزارة العدل نجحت في حماية هذه السلطة، بل تعاقب عليها وزراء وسّعوا من دائرة التدخل. أما مجلس القضاء الأعلى، فصار هو أيضاً سلطة مشكوّاً منها، حيث لا يبادر إلى أي عملية تنظيم في الجسم دون الحصول على موافقة سلطات الأمر الواقع. أما الأدوات التنفيذية المساعدة للقضاء، من ضابطة عدلية ومخافر، فمشكلتها أكبر لناحية الانحياز السياسي، وجداول الأعمال المستقلة. ولنضف إلى كل ذلك، واقع الأجهزة الأمنية في لبنان، التي فيها من هو متفرغ لمراقبة بقية الأجهزة، بينما لا مجال لأي تنسيق فعلي، حتى في مكافحة الإرهاب.
من أين يبدأ الإصلاح؟
سؤال يتكرر هو الآخر مرات ومرات. وكلام كبير يقال عن ضرورة ضمان استقلالية القضاء وخلافه من الشعارات. لكن، من بيده الأمر، هو من بيده أمر السلطات الفعلية الحاكمة في لبنان. وهذا الذي بيده الأمر، ما هو إلا مجموعة من القوى والشخصيات والأحزاب والمراجع السياسية والطائفية، التي لا ترى في القضاء إلا واحدة من أدوات تأبيد البقاء على الكرسي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
في كل ما يتصل بعمل النيابات العامة في لبنان، هناك مستويات من التدخل تتجاوز طلب استرحام لموقوف أو متهم أو مشتبه فيه. ربما هو أمر عادي في بلادنا. لكن التدخل صار في ممارسة القهر التعسفي بحق مواطنين. وقضاة التحقيق صاروا أقرب إلى التعامل مع التحقيقات الأولية على أنها «خلاصة التوجه» التي يفترض تثبيتها ما لم تكن الفبركات فاقعة جداً. أما في الحكم، فالمشكلة تكون في لجوء القاضي إلى مبدأ «التحفظ الأقصى» بأن يعمد إلى القراءة في كتاب من دون الأخذ بالاعتبار كل ما سبق وصول الملف والمتهم إلى تحت قوسه.
لكن الأسئلة التي يهرب منها الجميع، هي الأسئلة التي لا بد من طرحها، ولو كانت كلفتها فبركة المزيد من الملفات على كل من يعترض على عمل السلطات كافة في لبنان. وهي اسئلة يجب أن تُرمى بقوة في وجه كل من له علاقة بملفات القضاء، من سلطات ومراجع، إلى قوى عسكرية وأجهزة أمنية، إلى نواب عامين وقضاء تحقيق وقضاء حكم، إلى محامين ونقابتهم، وإلى الموظفين من كتّاب يعرفون ما يبقى في المحضر وما يشطب وما لا يجب أن يرد فيه أصلاً، إلى حراس الخزائن التي تختفي فيها ملفات وملفات، إلى إدارات سجون لا تعرف رفض حشو غرفها الضيقة بموقوفين من دون محاكمات، إلى جمهور صامت، نراه يستعد للذهاب خلال أيام إلى صناديق الاقتراع، مجدداً لممثلي السلطات السياسية في المجالس البلدية، حيث لا إنماء ولا تنمية ولا من يحزنون.
مناسبة الحديث، ليست واقعة واحدة فقط، بل وقائع، تشمل كل مؤسسات وأفرع القضاء في لبنان، لكن الفضيحة التي لن يحجبها غبار الانتخابات البلدية، هي تلك المستمرة في عدلية النبطية. إذ في سابقة نادرة، تنحّى تسعة قضاة عن النظر في دعوى تزوير. على مدى تسعة أشهر تقريباً، «هرب» القضاة التسعة تباعاً من الملف كي لا يتحمّلوا تبعاته. آخر قضاة المحكمة حسن سكيني تنحى أمس. لم يعد هناك أي قاضٍ في محكمة النبطية قادراً على النظر في الدعوى. استنكفوا جميعهم عن إحقاق الحق. وستحال الدعوى على محكمة التمييز في بيروت لتعيين مرجع قضائي للنظر فيها، مع ما يستتبع ذلك من إطالة أمد توقيف الموقوفين، فيما يبقى القضاء بأمر السياسة.
أحد الموقوفين
يبلغ السبعين من العمر، وتوقيفه
صار تعسفياً
وهذه القصة تفتح الباب أمام السؤال عن الجهات السياسية التي تقف خلف التعطيل القضائي، خصوصاً أن الكلام المباشر يشير إلى أن الخلاف في كفررمان يطاول قيادات في حركة أمل، من النائب هاني قبيسي، إلى حسين أخضر، إلى كمال غبريس. وإن الحركة نفسها، تعرف كل التفاصيل الخاصة بهذه الورشة التي يفترض أن تدرّ أرباحا تكفي الجميع.
السؤال هنا، ليس عن كيفية حصول الأمر، ومن يملك الحصص الفعلية من عدمها، أو عن تدخل هذا المسؤول أو هذا النائب. السؤال هنا، هو مسؤولية الرئيس نبيه بري عن هذا الوضع. والإجابة المنتظرة منه، حول كيفية قبوله، هو وحزب الله أيضاً، بوجود مثل هذه الفضيحة. وكيف يعقل أن يدعو الفريقان الناس إلى التصويت لمرشحين هم قرروا أنهم الأنسب لإدارة البلديات في بلدات وقرى قضاء النبطية.
عن أي تنمية وإنماء يتحدثون؟ وعن أي حرمة للقضاء ولحرية الناس وللمال العام يسألون؟ وأي نموذج عن إدارة المؤسسات العامة أو الخاصة يقدمون؟ إنها أسئلة ستظل قائمة، وستكبر ككرة الثلج، خصوصاً عندما تبدأ الأخبار عن فضائح مماثلة تحصل في ملفات أخرى، حيث يطلب إلى القضاء أن يكون «شيخ صلح» بين متنازعين، لا أن يترك الأمر للمحاكم المختصة لتحسم الأمر بحسب ما يقرره القانون، وعندها يتحمل الناس المسؤولية عن أقوالهم وعمّا يفعلون.
قضاء بلا قضاة
القصة جرت أحداثها في بلدة كفررمان الجنوبية (قضاء النبطية). واجهة النزاع كسّارة ومجبل زفت، أما حقيقته فخلاف على حسابات مالية ومسائل شخصية. تراكمت المشاكل بين رئيس بلدية البلدة كمال غبريس، وشريكه حسين أخضر (الاثنان من حركة أمل)، بعد شراكة في كسارة امتدت سنتين، وفجّرها خلاف حول مجبل زفت. وبعد محاولات عدة غير ناجحة من قيادة «أمل» لحلّ الخلاف، انتقل الملف إلى القضاء الذي أوقف عدداً من الأشخاص.
تسلّم ملف التحقيق، بداية، القاضي هاني حلمي الحجار الذي قرّر تخلية سبيل اثنين من الموقوفين. لكن رئيس الهيئة الاتهامية في النبطية القاضي برنارد الشويري، فسخ القرار، فتنحّى الحجار كي «لا يُخالِف قناعاته»، ليُكلَّف الملف قاضي التحقيق عبد زلزلي الذي وافق على طلب إخلاء سبيل موقوف، فأبطلته الهيئة الاتهامية ليتنحى زلزلي بدوره. بعده، وصل الملف إلى قاضي التحقيق عباس جحا الذي قُدِّم إليه طلب إخلاء سبيل منذ ثلاثة أشهر، فردّه. استُؤنف قرار القاضي أمام الهيئة الاتهامية التي لم تنعقد لثلاثة أشهر، لتكرّ بعدها سبحة التنحي لفرط الهيئة عن سابق إصرار، فتنحى عن الملف تباعاً كل من القضاة وسيم إبراهيم ورئبال ذبيان ومحمد عبدو ونسرين علوية. بعدها، عُرض الملف على رئيسة الهيئة الاتهامية مهى فياض، فرفضت النظر فيه. ولم تنعقد الهيئة الاتهامية للنظر في الملف منذ خمسة أشهر. وبعد تقدم وكيل غبريس بطلب نقل الدعوى إلى بيروت، وصل الملف إلى القاضي جوزيف سماحة، وبقي لديه شهر وعشرة أيام قبل أن يقرر تغريم غبريس مليون ليرة للمحكمة ومليون ليرة للمدّعي أخضر، وإعادة الملف إلى النبطية، حيث كُلِّفَ به أخيراً رئيس الهيئة الاتهامية في النبطية القاضي خالد عبد الله.
هل يُعقل أن يهرب القضاة من ملف دعوى تزوير مستندات غير رسمية، وهي ــــ إن ثبتت ــــ جُنحة لا جناية؟ أم أنّ للسياسة الكلمة الفصل؟ وما ذنب الموقوفين، وأحدهما سبعينيّ، إن كان القضاة لا يجرؤون على السير في الملف؟ وأين مسؤولية مجلس القضاء الأعلى تجاه عدم النظر في الملف، فيما يكاد الموقوفون يُصبحون معتقلين تعسُّفاً، علماً أن المتضررين تقدموا بشكوى لدى هيئة التفتيش القضائي للارتياب من المسار غير القانوني للملف والقضاة الذين تعاقبوا عليه؟ كذلك طلب المتضررون نقل الدعوى للهروب من الضغوط التي تُمارس على القضاة في محكمة النبطية، سواء كانت سياسية أو خلافها. إلا أن أحداً لم يُحرّك ساكناً.
بدأت القصة منذ تسعة أشهر. اختلف غبريس وأخضر على ٣٣ عقاراً تقدّر قيمتها بثمانية ملايين دولار. بحسب رواية رئيس بلدية كفررمان، تشارك المدّعي حسين أخضر (من بلدة جبشيت) مع ابنة غبريس، عام 2012، في مشروع كسّارة ومجبل زفت في عدد من العقارات في بلدة كفررمان. يومها، تنازل غبريس الأب عن نصف العقارات ثمناً للشراكة مع أخضر، لكنّه لم يقبض سوى ٣٠٪ من ثمنها، علماً أن قيمة النسبة الباقية تبلغ نحو مليون دولار. بدأ العمل بالكسارة، لكن غبريس أوقفها لاحقاً، فتدهورت العلاقة بين الطرفين بسبب خلاف على حسابات مالية بحسب ما تردّد. ويشير غبريس إلى أنه اتفق مع أخضر على استصدار رخصة عمل لمجبل زفت. وبما أن العقار المقرر لإقامة المجبل عليه لم يكن مفرزاً، استلزم توقيع مالكي العقار ١٧١١ على «ورقة مسامحة» تُبيح لشخص يُدعى علي خريس (غير النائب عن قضاء صور) لتشغيل المجبل. وبعدما صدّق رئيس البلدية عليها عام ٢٠١٢، وافق المجلس البلدي على إنشاء المجبل. وبحسب غبريس، فإنّ شريكه زوّر تاريخ الاتفاقية على صورة لا أصل لها، ليُبدله من ٢٠١٢ إلى ٢٠١٤، ثم وُجِّهَت تهمة التزوير إلى غبريس. وبموجب هذه الشكوى، أوقف القضاء أربعة أشخاص هم حيدر نور الدين وعضو البلدية علي ضاهر (٧٥ عاماً) وعلي خريس (٧٠ عاماً) ومحمد نور الدين (شقيق زوجة رئيس البلدية). ولا يزال موقوفان، هما خريس ونور الدين، يقبعان في السجن من دون وجه حق. ويؤكد غبريس أن المدّعين يفاوضونه على إخراجهما في مقابل تنازله عن أرضه، عارضاً ورقة تنازل موقّعة من أخضر أُحضِرت إليه لتوقيعها. وتتحدث المصادر عن كيل القضاء بمكيالين في هذا الخصوص. إذ إنّ وكيل غبريس ادّعى على أخضر بالابتزاز، لكن الشكوى حُفظت. فيما سار القضاء في دعوى احتيال مقابِلة من أخضر ضد غبريس، إضافة إلى عدد من الدعاوى التي تقدمت بها الجهة المدعى عليها ولا يزال مصيرها مجهولاً. وينقل غبريس أن أحد القضاة أبلغه أن الأفضل له إنهاء القضية بمصالحة. فما ثمن المصالحة؟ يوضح غبريس أن أخضر دفع مليوناً و٨٠٠ ألف دولار في الشراكة، وهو يطلب ٣ ملايين دولار لإسقاط الدعوى أو التنازل عن العقارات.
من جهته، يردّ وكيل أخضر، المحامي أحمد يحيى، على رواية غبريس، متحدثاً عن «رحلة معاناة» تمتد على سنتين. ويؤكد «أنّ سبب الخلاف قطعة أرض اشتراها موكلي بتاريخ معين. والشراكة بدأت على كسّارة، وسبب الخلاف أن أخضر طوال فترة العمل في الكسارة لم يقبض دولاراً واحداً، رغم أنّها كانت تنتج ١٢ ألف دولار يومياً، بحسب ما كان غبريس يتداول». وأضاف أن «المدعى عليهم حرّروا ورقة مسامحة لإنشاء مجبل الزفت قبل سنتين وزوروها ثم سجلوها في سجلات البلدية»، لافتاً إلى أنّ المدّعى عليهم «عندما اكتشفوا أنّه ليس بإمكانهم الاستحصال على رُخصة، وقّعوا ورقة مسامحة بينهم وسجّلوها قبل البيع بـ ٦ أشهر». والغاية من ذلك، بحسب المحامي، أنّهم «كانوا يريدون القول إن أخضر اشترى العقار رغم علمه بوجود عقد استثمار».