لم تحل عطلة عيد الفصح لدى الطوائف المسيحية الشرقية، ولا عطلة عيد العمال، دون «عشاء العمل» الذي جمع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع مع الرئيس سعد الحريري في «بيت الوسط»، بناء على دعوة من رئيس «تيار المستقبل»، بحضور المستشارين الدكتور غطاس خوري وملحم رياشي.
كان واضحا من الطابع الدافئ للعشاء الذي لم يخل من تبادل النكات، ان الرجلين يحاولان، بكل الوسائل و «الحيل» استجرار بعض الحرارة الى علاقة سادها الصقيع السياسي منذ قرار الحريري بترشيح النائب سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية، ورد جعجع بدعم ترشيح عون.
ومع ذلك، لم يكن لقاء «بيت الوسط» كافيا لكي يحتفي الرجلان بـ «قيامة» كاملة لعلاقتهما، مع استمرار خلافهما حول الملف الاهم في هذه المرحلة، وهو الملف الرئاسي. لكن هذا اللقاء الذي أُعد له جيدا، بدا بمثابة المحاولة العملية والجدية الاولى، لتنظيم «قواعد الاشتباك» بينهما، منذ ان فرقهما قصر بعبدا، وراح كل منهما يغرد في سرب، لا يراه الآخر سوى سراب.
وقد سبق لقاء «بيت الوسط» اجتماعات تحضيرية بين خوري ورياشي، بالترافق مع تبادل رسائل، عبرهما، بين الحريري وجعجع، ثم كانت زيارة من خوري الى معراب، نقل خلالها دعوة رسمية من رئيس «المستقبل» الى رئيس «القوات» لتناول العشاء الى مائدته.
وفي انتظار اختبار نتائج هذه المحاولة، تسيّد «القريدس» مأدبة العشاء، إنما من دون ان ينجح في تعطيل مفعول «الحسَك» الرئاسي الذي سبق ان «صعّب» على تحالف «القوات» ـ «المستقبل» عملية «المضغ» السياسي، في اكثر من مناسبة، وسط اصرار الحريري وجعجع على التمسك بدعم مرشحيهما وعدم استعداد أي منهما لملاقاة الآخر في خياره، وهو الامر الذي ثبت مرة أخرى خلال النقاش المطول الذي دار حول هذه النقطة في الاجتماع.
وإزاء استعصاء تلك النقطة على الحل، اتفق الحريري وجعجع، أثناء سهرة «بيت الوسط» على ضرورة «تبريد» الخلاف في شأنها، والسعي الى الحد من تأثيراتها على مجمل العلاقة الثنائية، لاسيما ان اللحظة الاقليمية لا توحي بامكانية التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية قريبا، ما يعني ان أي سجال او اشتباك بينهما في الوقت الضائع، سيكون من دون جدوى.
حلقة مقفلة
تشعر «القوات» ان النقاش الرئاسي مع «المستقبل» بات يدور في حلقة مقفلة، لا تبدو قابلة للكسر في المدى المنظور، بفعل عدم جهوزية الحريري للخوض في أي طرح جديد، خارج إطار ترشيح فرنجية، ولذا تعتقد انه من الافضل التكتم على كل ما يتعلق بهذه المسألة الخلافية، وإبعادها عن دائرة التجاذب و «القيل والقال»..
ويحرص أحد المحيطين بجعجع على التأكيد انه «إذا كنا نتباين مع الحريري حول المرشح الافضل، فاننا نلتقي وإياه على ضرورة اجراء الانتخابات، والانتظام العام تحت سقف اتفاق الطائف».
وتجنبا لمواجهة الشياطين التي تسكن التفاصيل، يتوغل المصدر القواتي في «الاسس النظرية» لعلاقة معراب - «بيت الوسط»، لافتا الانتباه الى «ان «المستقبل» هو التيار المعتدل الذي يشكل النقيض الطبيعي لتنظيم «داعش» والتطرف الاسلامي والدولة البدائية التي يتم السعي الى تأسيسها في الشام والعراق، أما «القوات» فهي انعكاس وضمانة للدور المسيحي الاستراتيجي الذي صنع الفارق للبنان، قياسا الى دول المنطقة، ومن هنا أهمية ان يتلاقى هذان المكوّنان».
على الضفة الاخرى، تسود لدى الحريري قناعة بانه فعل كل ما يستطيع ان يفعله وأكثر، لتسهيل انتخاب رئيس الجمهورية، من دون ان يلاقيه الآخرون في منتصف الطريق، وبالتالي فهو لم يعد لديه ما يقدمه: «دعمت جعجع في البداية، لكنه لم يتمكن من الحصول على اصوات الاكثرية.. طرحت خيار امين الجميل إلا انه لم يحقق الاختراق المطلوب.. تفاوضت مع العماد عون فاعترض حلفائي.. وأخيرا قبلت بسليمان فرنجية فجرت عرقلة هذا المسعى.. لقد ذهبت الى ابعد الحدود، وأيدت تباعا ترشيح الاقطاب الاربعة المتوافق عليهم في بكركي، فما المطلوب مني بعد؟».
وتعبر احدى الشخصيات الوازنة في «المستقبل» عن هذا المشهد، على طريقتها، قائلة: لم يتبق من الذين اجتمعوا في بكركي سوى البطريرك الماروني.. فهل يريدون ان نرشحه؟
وتقر هذه الشخصية بان جعجع نجح في تعطيل انتخاب فرنجية، «إلا انه أخفق في اخراجنا من الفراغ».
وتبعا للمعطيات الراهنة، صار الاستحقاق الرئاسي بالنسبة الى الحريري، اقليميا بامتياز، وأبعد من معراب و «بيت الوسط»، والدليل ان الانتخاب لم يتم، سواء عندما اتفق او اختلف مع جعجع.
وانطلاقا من هذه المقاربة، تؤكد الشخصية ذاتها، والمعروفة بقربها من رئيس «المستقبل»، ان الحريري ليس بصدد تقديم أي مبادرة جديدة، في مرحلة انعدام الوزن الداخلي، وليس هناك ما يمكن ان يقوم به غير حث المقاطعين على النزول الى مجلس النواب..
الانتخابات البلدية
على صعيد الانتخابات البلدية، كان عشاء «بيت الوسط» ضروريا كذلك للإحاطة بما يجري على الارض المتعرجة، حيث يلتقي الطرفان في أمكنة ويفترقان في أخرى.
هنا، لا تتردد «القوات» في تأكيد قدرتها على المواءمة بين تفاهمها المستجد مع عون، وتحالفها المفترض مع الحريري، بل تعتبر ان جسورها الممدودة في الاتجاهين هي التي ساهمت في جمع «الازرق» و «البرتقالي» على متن «لائحة البيارتة» المرشحة الى انتخابات بلدية بيروت، بعدما أفضت الجهود التي بذلها جعجع لدى قيادة «المستقبل» الى حجز حيز لـ «التيار الوطني الحر» في اللائحة.
ويفاخر مصدر قواتي بارز بان ضغط جعجع هو الذي صنع هذا الانجاز، «ما يثبت ان تحالفنا مع «التيار الحر» و «المستقبل» في وقت واحد يمكن ان يكون منتجا وليس محرجا..».
ويشير المصدر الى ان من مفاعيل عشاء «بيت الوسط» قرار الحريري بترك حرية التصويت للناخبين المنتمين او المناصرين لـ «تيار المستقبل» في زحلة، مشددا على انه لن تكون هناك مواجهة مباشرة بين «المستقبل» و «القوات» في المدينة، كما كان يفترض البعض.
أما الحريري، فان التحدي الاهم بالنسبة اليه، كما يؤكد المحيطون به، هو الحفاظ على المناصفة في المجلس البلدي لبيروت، في لحظة احتقان طائفي ومذهبي على مستوى المنطقة كلها، وصولا الى لبنان.
وكان الحريري واضحا خلال لقائه مع جعجع في التشديد على ان حماية المناصفة ليست من واجباته وحده، بل تحتاج ايضا الى جهد القوى المسيحية المنخرطة في «لائحة البيارتة»، خصوصا ان اي خرق محتمل سيهدد بالدرجة الاولى المقاعد المسيحية: «ان تأمين المناصفة لا يقع على عاتق المسلمين وحدهم، والاطراف المسيحية مدعوة الى ان تتعاطى مع هذه المسألة بجدية ومسؤولية، وان تساعد «المستقبل» في منع حدوث أي خرق عبر رفد اللائحة بأصوات مسيحية وازنة»، وفق ما يُنقل عن الحريري.
قانون الانتخاب
وفي ما خص قانون الانتخاب، أعاد الحريري وجعجع التمسك بالاتفاق السابق الذي توصلا اليه، بمشاركة الحزب التقدمي الاشتراكي، على اعتماد المشروع المختلط المستند الى معادلة «60 نسبي - 68 أكثري». لكن الحريري كان حريصا على التأكيد انه ليس معنيا بان يتولى التسويق لهذا الطرح، سواء عند عون او غيره.
ويصر الحريري على التشبث بهذه الصيغة، إلا إذا عُرضت عليه أخرى تحقق تكافؤ الفرص وتمنح جميع الاطراف حظوظا متساوية في الفوز، «بحيث لا تكون مفصلة على قياس هذا او ذاك».
ويبرر المقربون من الحريري حماسة رئيس «المستقبل» الشديدة للمشروع المقترح (60 نسبي - 68 أكثري)، بالاشارة الى ان «القوات» ربما تحتمل الاخذ والرد حول تعديلات في هذا الطرح، لاسيما بعد تفاهمها مع عون، والذي ربما يسمح لهما باستنساخ تجربة «حركة أمل» - «حزب الله» في الانتخابات النيابية، «اما نحن فان أي عبث بالمقادير المدروسة بدقة قد يؤثر سلبا علينا».
ويختصر هؤلاء وظيفة لقاء «بيت الوسط» باعادة النقاط الخلافية مع جعجع الى الاطر المقبولة، وتفعيل القواسم المشتركة..
ويبقى السؤال: هل كان عشاء «بيت الوسط» في «الفصح» مناسبة لـ «الصفح»، أم ان طبق النيات المضمرة ظل الأقوى حضورا على المائدة؟