عبر التاريخ، لم تكن حلب مدينة هامشية، كانت على الدوام مكاناً رمزياً، موقعاً إستراتيجياً بكل ما للكلمة من معنى، يعتمد، في الجغرافيا السياسية والاقتصادية لقياس قوة الامبراطوريات والممالك والجمهوريات التي ضمت المدينة او إنضمت إليها، وإتخذتها في معظم الإحيان عاصمة ثانية.. وهي الصفة الأبرز لتلك الحاضرة التاريخية.
كانت حلب ولا تزال معياراً مؤثراً لتوسع أي إمبراطورية، ولترسخ أي مملكة، ولوحدة أي جمهورية، بقدر ما كانت مؤشراً مهماً على قدرة الامبراطور او الخليفة او الملك او الامير او الرئيس على إرساء نظام حكم لامركزي (فيدرالي ) ناجح، مزدهر. هكذا كان الحال من أيام اليونان، والرومان، والاسلام، وصولا الى العثمانيين، الى الفرنسيين، وانتهاء بالاسديين.
ومن مميزات المدينة وعناصر تكوينها التاريخي التي ساهمت أيضا في تعزيز مكانتها المشرقية على مر العصور أنها كانت موقعاً جاذباً لمختلف أنواع الهجرات البشرية التي شهدها العالم القديم. ولعل أهم ما سيكتبه التاريخ غداً هي أنها تشهد اليوم، في مطلع القرن الحادي والعشرين، ربما أول هجرة عكسية، تدفع بسكانها الذين استوطنوها منذ مئات السنين الى الشتات القريب والبعيد.
مع هذه المفارقة المذهلة، يحضر مرة أخرى مؤشر حلب الاستراتيجي، او بورصتها الخاصة، التي تختصر اليوم، وبلا أي مبالغة، مكونات النظام العالمي الراهن ومؤشراته، ومواقف قواه الكبرى، وتوجهات(او تخبطات) قواه الصغرى، التي تتعامل كلها مع حريق المدينة ومذبحتها المروعة، بوصفها مختبراً، او دليلاً على التآمر او التواطوء او العجز او الاخفاق. لم تعد المدينة مهمة بذاتها، بل بما هي وسيلة لفضح الاخر وكشف وحشيته وتعرية خطابه.
ويستوي في ذلك الاميركيون مع الروس مع العرب والاتراك والايرانيين وسواهم ممن هم شركاء في المحرقة السورية التي تقف اليوم عند منعطف سياسي وتاريخي بالغ الاهمية والخطورة. حلب تحترق فعلاً وشعبها يباد حقاً. لكن العالم يتعامل ببرودة متناهية مع الحدث الاستثنائي، الذي لا يمكن ان يحدد فقط بالمعايير الانسانية وحدها، وهي في الاصل مرعبة، بل بالتحولات الاستراتيجية التي سيفرزها هذا الحدث بلا أدنى شك.
ولعل السبب الاول لهذه اللامبالاة الدولية، بل المؤشر الاهم ، هو عدم وجود قادة عظماء وزعماء تاريخيين يدركون معاني معركة حلب وتداعياتها البعيدة المدى. في واشنطن رئيس أحمق، وفي موسكو رئيس أخرق، وفي بقية العواصم المعنية، مسؤولون جهلة او أميون، يعتقدون ان حريق حلب عابر في تاريخ سوريا، لن يكون له أثر شديد على مصير الحكم في دمشق وعلى مستقبل الثورة السورية، ولن يكون لها أي صدى في لبنان وتركيا والعراق والاردن وإيران… التواطوء الاميركي الروسي على المدينة هو بحد ذاته صفحة بالغة مهمة من التاريخ الدولي المعاصر، وعنصر بالغ الأثر في تشكيل الملامح المقبلة للنظام العالمي، الذي يسير وفقه الاوروبيون والاتراك والعرب والايرانيون، من دون أدنى إستعداد للتحدي او التمرد او العصيان، كما كان يحصل في حقبات سابقة.. مع ان التواطوء الراهن ليس بين اقوياء ولا بين افكار واستراتيجيات بعيدة المدى، بل بين سلطات تحكم بالحد الادنى من التفكير وبالمدى الاقصر من التخطيط، المبني على تحويل مليشيات بربرية مثل داعش والنصرة الى قوى أسطورية تهز العالم من أقصاه الى أقصاه وتهدد أمنه وأستقراره وتشكل خطراً على دورته الاقتصادية وخطوط تجارته الدولية.
ما زالت حلب مهمة بحد ذاتها، وما زالت تشكل حافزاً قوياً للعرب وللاتراك وللسوريين طبعا، ولغيرهم كثيرين، لكي يبذلوا جهداً بسيطاً، متاحاً، من أجل اطفاء ذلك الحريق الهائل المستعر في المدينة التاريخية التي يبدو انها تقع ضحية التاريخ الذي ساهمت أكثر من أي مدينة مشرقية عربية في كتابة أهم صفحاته.
المدن