عادت مدينة حلب إلى واجهة الأحداث بعد التطورات العسكرية التي شهدتها في الأيام الأخيرة وخصوصا في الأمس حيث سجلت مجزرة رهيبة في مستشفى القدس التابع لأطباء بلا حدود والواقع في إحدى الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة جراء غارة جوية روسية كما أشارت معظم الوكالات الإخبارية العالمية. وليس جديدا تكرار المجازر في هذه البلاد التي أصبحت كلحن يومي يعزف على جراح وآلام الشعب السوري ولكن الجدي هو نسبة الضحايا المرتفع التي وصلت إلى العشرات بعد بدء سريان الهدنة المهددة بالفشل.
ولكون الهدنة ذات تغطية دولية حاول كلا طرفي النزاع لصق تهمة المجزرة بالآخر ووصل تبادل الإتهامات إلى العرابين الدوليين حيث إتهمت أميركا روسيا بالتسبب بها فيما ردت الأخيرة بأن هناك طائرة تابعة للتحالف الدولي كانت تحلق فوق المنطقة.
وبعيدا عن لغة الإتهامات المتبادلة، تشكل الأحداث الدراماتيكية في حلب حدثا بالغ الأهمية لجهة التوقيت والأبعاد.
فهي تأتي في سياق فترة المفاوضات في جنيف وإمتعاض وفد الرياض من نتائج وأسلوب الوفد الحكومي. فالهدنة جاءت كمقدمة لمفاوضات تحصل بين طرفي النزاع بعد تجميد الواقع الميداني كما هو والذي سبقه حملة عسكرية لقوات النظام وحلفائه في ريفي حلب الجنوبي والشمالي والتي إستطاعت تحقيق إنجازات لكنها ترافقت مع خسائر بشرية ولوجستية ضخمة وأصيبت ببطىء في التقدم في مراحلها الأخيرة.
كذلك المعارضة المسلحة إستطاعت إبطاء الهجوم العسكري على الرغم من الخسائر التي لحقت بها من أرواح ومناطق جغرافية. هذه المعطيات المشتركة كانت كفيلة بالضغط على طرفي النزاع لأخذ إستراحة محارب والتوجه لجنيف تحت سقف الإتفاق الروسي - الأميركي خصوصا أن الإنسحاب الجزئي الروسي كان في هذا الإتجاه أيضا من أجل الضغط على النظام للجلوس على طاولة المفاوضات.
قبل النظام بذلك لكنه أربك هذه المفاوضات لإفشالها فبدأ بتأويل النصوص وتفسيرها حسب مصلحته السياسية وتجاوز الصلاحيات المعطاة له فتعدى على حقوق المعارضة لجهة تسمية المفاوضين وهذا ما لم يستطع تحقيقه.
كانت رسالة النظام واضحة بأنه لا يريد هذه المفاوضات لأن عقيدته أمنية وخلفيته عسكرية لا تؤمن بالحلول السياسية. إستمرت عراقيل الوفد الحكومي للمفاوضات ما أدى إلى إنسحاب وفد الرياض.
هذه العراقيل تزامنت مع تحركات لجبهة النصرة المصنفة إرهابية لتحقيق خروقات في الريف الحلبي الجنوبي وهذا ما نجحت فيه خصوصا في تلة العيس وسيطرتها عليها. دوافع النصرة لهذه التحركات والخروقات هي أن الهدنة لم تشملها كونها مصنفة إرهابية والهدنة هي تجميد جميع الجبهات للتركيز عليها وإستهدافها مع داعش المصنفة إرهابية هي الأخرى.
هنا المصلحة المشتركة تكمن بين عدة أطراف تتمثل بالنظام السوري الذي لا يؤمن بالحل السياسي ولا بالهدنة بل يستغلها لتجميع قواته وتتمثل أيضا بالنصرة وداعش الذين يرون بالهدنة إستهدافا مباشرا لهم.
هذه النقطة إستغلتها روسيا خصوصا وخلقت مشكلة كبيرة لفصائل المعارضة المعتدلة وفي طليعتها الجيش الحر الذي يتلقى الضربات من كافة الإتجاهات والأكراد يقضمون الأراضي في أرياف حلب بتأن وتخطيط مهولين بخطر داعش وتهديداته. لذلك طلبت روسيا من أميركا كتبرير لضرباتها الجوية تحديد مواقع المعارضة المعتدلة لعدم توجيه ضربات لها.
والهدنة المتفق عليها وقع عليها عشرات الفصائل العسكرية المعارضة والمصنفة في دائرة الإعتدال ما خلق إلتزاما واضحا من جهتهم وهذا الإلتزام بالخصوص هو ما أزعج النظام السوري لأن دعاية النظام كانت ولا زالت أن المفاوضين لا يسيطرون على المسلحين ولا يتحكمون بقراراتهم بعكس ما أظهره التوافق التام بين المسلحين والمفاوضين.
والهدنة لم تكن إعلانا تاما لوقف النار بقدر ما كانت محاولات إلتفافية لتسجيل نقاط في الوقت البدل الضائع لتكريس قواعد إشتباك جديدة.
فقذائق الهاون مستمرة والغارات الجوية تدك المدنيين في أحياء حلب وأصبحت مهددة ما جعل المبعوث الدولي ستافان دي ميستورا يصرح بنبرة عالية لأول مرة بأن المرحلة الإنتقالية لم تعد من المحرمات بعد الآن وحان الأوان لبدء النقاش بها في رسالة حادة للنظام السوري هي الأولى منه شخصيا. ودعت أميركا روسيا أيضا للضغط على النظام السوري من أجل الحفاظ على الوضع القائم وتثبيت الهدنة.
التقارير من حلب تشير إلى إستعدادات من قبل الجميع وخصوصا النظام السوري للبدء بهجوم جديد وهو إعلان مبكر لإنتهاء الحل السياسي والتوجه لحلول عسكرية حاسمة قد لا تكون على ذوق النظام كما يأمل خصوصا بعد قرار أميركا إرسال 250 جنديا إلى الحسكة في إشارة للتدخل العسكري الأميركي المباشر والذي إعتبرته روسيا يندرج في إطار الخطة " ب" للولايات المتحدة الأميركية، أضف إلى تصريح لافروف المثير للإهتمام والذي صرح فيه عن أن أميركا لم تتخل عن خططها لتغيير النظام السوري.
فهل هذه المعطيات تدخل ضمن الخطة الروسية الأميركية المشتركة لإنهاء الحرب في سوريا أم أنها نعي لهذه الخطة؟ في حلب تكمن الإجابة.