لن ننزلق! لقد اعتاد تيار السيد فضل الله على تجرع الغصص والآلام حرصًا على الإسلام ووحدة المسلمين وعلى مستقبل الأمّة أمام خطط الأعداء ومؤامراتهم... عندما كان ينظّر السيد فضل الله للوحدة الإسلامية وتصحيح المسار الفكري للمسلمين بعامّة لم يفهمه الشيعة ولا السنّة (آسف على هذا التصنيف)، غلاة الشيعة رجموه بالبيانات والكتب وتقطيع الكلمات وعلى منابر الخطابة "الحسينية"... ولعمري اجتمع عليه من لا يجتمعون؛ وكلُّ لديه ثأره الخاص: بعضٌ حَسَدًا، وبعضٌ مرجعيّةً، وبعضٌ سياسة، وبعضٌ خوفًا، حتّى قالها أحدهم: حاربنا السيد فضل الله كلّ هذه الحرب ووصل إلى هنا، فكيف إذا لم نحاربه!.. وَأَمَّا الخطاب السنّي فلم ينظر إليه كفرصة لإعادة النظر في نقد التراث الإسلامي بعامّة من كلّ ما علق به بمرّ السنين وعبث العابثين وجهل الجاهلين وسياسات الحكّام...، وإنما سجّل غلاتهم ببعض مقولاته نقطة على الشيعة.. بما كان يشي - هنا وهناك - باستمرار العقل "الإسلامي" على النهج التاريخي في تسجيل النقاط، وليس في التفكير بعقلانية ناقدة، هذا النهج الذي يقف وراء كثير من المصائب التي نعانيها هذه الأيام!
لا أشكّ لحظةً أنّ كثيرين كانوا لا يختلفون مع السيد فضل الله في آرائه ونقده (ولذلك صدح بها كثيرون بعد وفاته)، ولكنّهم استغرقوا - حينما كان يتعرّض السيد فضل الله للهجوم - في حجم اللحظة أو تسلحوا ببعض الاعتبارات السياسية أو ركنوا إلى مزاج الجماهير أو غير ذلك، فأمالوا كفّة الخطاب الشيعي إلى ما هو ضدّ الوحدة والعقل الناقد من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فإنّ الساحة - كما كما يقول السيد فضل الله نفسه - لا تحتمل الفراغ؛ إذا لم تملأه أنت فسيملؤه غيرك!.. نعم انسحاب الكثيرين من المواجهة جعل الفراغ يُملأ بالفكر الخرافي وغير العقلاني وبالمنهجية الأخبارية التي تقبل أي رواية بما يكاد يشي أحيانًا بالسطحية التي نعيب عليها الحالة "السلفية" لدى الطرف الآخر!
ونخشى أنّ كثيرًا ممن يُراهَن عليهم في إشاعة الفكر العقلاني العلمي النقدي ينزلقون إلى هذا المنزلق من جديد! ولأجل ذلك سعينا لدى كثير من النافذين في الساحة من اللحظة الأولى التي بدت فيها بوادر تكريم هذا اللون من الفكر بدافع العلاقات الشخصيّة، أو العاطفة الساذجة (كثير من التكريمات في واقعنا مسألة علاقات أو عاطفة! هذا حال الدنيا!)، في الوقت الذي ينبغي أن تُقارب مثل هذه المسائل بمنتهى العقلانيّة قياسًا بتحدّيات الحاضر والمستقبل.. ولكنّ يبدو أنّ الأمور أقوى! تخيَّلوا مفردةً من هذا الفكر المكرَّم، أنّ المسجد الأقصى ليس الذي في فلسطين!
وإنما هو في السماء الرابعة! تبعًا لما تشتهيه الأنفس من روايات، وتحذفه من أدلة أخرى دامغة (لا أدري إذا كان المكرِّمون ملتفتين!).. واسمحوا لي أن أروي هنا حادثة، وهي أنّ محاولات استخبارية أرادت أن تستغل هذه النقطة لتوجد الفتنة في قضية هي من أقدس القضايا؛ لتقول إنّ الشيعة (الذين يحملون لواء المقاومة ضدّ "إسرائيل" ويرفعون شعار تحرير فلسطين) لا يؤمنون بأنّ المسجد الأقصى المذكور في القرآن إنَّما هو في فلسطين وإنما في السماء...
أذكر يومَها استشراف السيد فضل الله الخطر في ذلك، فطلب من أحد تلامذته، وهو الشيخ جهاد فرحات، أن يكتب مقاربة علمية للموضوع، وفعلًا كتب الشيخ وأصدر كتابًا يدافع فيه عن هذه القضية بالعلم والمنطق والحجة والبرهان..
هنا بالذات يتميّز الفكر المسؤول الذي يواكب التحدّيات ويستشرف مخاطرها، عن الفكر المفارق للواقع والغارق في سكرات التجريد! اليومَ، وفي زحمة الفتنة يتمّ تكريم ذاك اللون من الفكر الذي يعتمد المنهجية الانتقائية تبعًا للمزاجية العلمية، التي تخطر معها الفكرة ثمّ يبدأ الإنسان ليبحث لها عن أدلة، كما نُقل لي عن بعض تلامذة ذلك الفكر! ما علينا! أعود لما بدأتُ به..
اعتدنا على تجرّع الغصص، وأن لا ننزلق إلى مهاترات، وسباب، وسجالات قد يكون الآخرون أقوى منّا فيها؛ لأنَّا أصحاب مبدأ وأريحية أخلاقية وضنٍّ بالساحة وحرص على حمايتها من كلّ تهديدات الجاهلين والعابثين... اليوم نتمثل قول الله تعالى: (إنّ الذين جاؤوا بِالإفْك عصبة منكم لا تحسبوه شرّاً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) إلى أن يقول تعالى: (إنّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأنّ الله رؤوف رحيم)، وقوله تعالى: (لتُبلونَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أَذًى كثيرًا وإن تصبروا وتتقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور)..
فإذا كان كثيرون يضربون عرض الجدار كلّ الحالة الإسلامية عندما يقررون تكريمًا هنا أو هناك، فإنّ الحالة الإسلامية هي إحدى الثوابت الأساسية التي ما استطاع استكبار عالمي أو أقليمي أو محلي أن يثني السيد فضل الله عنها... نعم، نحن الحريصين عليها، سنحافظ عليها بمحافظتنا على فكر الوعي وخطّه، وأخلاقية العلم ونقده، ولن ننزلق إلى ما يحطّ من قدر نفوسنا في ميزان العلم والبصيرة، والأخلاق والقيم، وسنردد ما كان ينظمه السيد فضل الله شعرًا وهو يؤرّخ لكل الصدمات التي كان يتعرّض لها تيّار الوعي، متمثلًا به وبالشهيد السيد محمد باقر الصدر (في قاعةٍ باسمه يُكرَّم هذا الفكر!)، وفي مقلبٍ آخر الشهيد مطهّري (الذي ينكر عليه المكرَّمون كتاب "الملحمة الحسينية" لأنّه يحرج فكرهم!) ومحسن الأمين (الذي تلقى السهام على تجديده من هذا اللون من الفكر!)...
وآخرون ماضون وآتون - بإذن الله -.. هو شعرٌ يمشي مع الزمن (من قصيدة نظمت سنة ١٣٨٠ هـ): علامَ الضجيج؟ وماذا فعلنا؟ وأنتم تثيرون أنّى اتجهنا غبار الطريق علينا ...... (إلى أن يقول:) ومهما فعلتم فلسنا هنا لنحقِدَ.. لكنْ لنصفحَ حُسْنا فنحن نرى أنّكم تجهلون انطلاق الحقيقة فيما دعونا وأنّ الطريق الذي تقصدونَ ـ ضلالًا - سينهار رُكنًا فركنا وسوف ترون بأنّ الضجيج سيخفُتُ إن أشرقَ الحقُّ منّا ومهما فعلتُم.. فنحنُ دعاءٌ يعيش بأعماقنا مطمئنّا إلى الله ربِّ حنانًا بهم وهديًا لهم ولنا كيفَ كُنّا ـــــــــــــ
وأقول أخيرًا: الذي يرجع بالذاكرة إلى ذلك النعش محمولًا على ذلك السيل البشريّ، لا يشكّ لحظةً أنّ الله تعالى (يؤيّد بنصره من يشاء إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار)... ويصادف أنَّني أكتُبُ هذه الكلمات في يوم وفاة السيد فضل الله (ره) - حسب التاريخ الهجري - الذي يبقى مظلومًا من الاستكبار العالمي الذي أعاد - هذه الأيام - إصدار مذكّرة تتضمّن اسمه ضمن لائحة الإرهاب تحت عنوان أنّه "المنظِّر الأيديولوجي لحزب الله"، ومظلومًا من قلّة التدبّر وسوء التدبير - من باب حُسن الظنّ-. الجمعة ٢٢ رجب ١٤٣٧هـ - ٢٩ نيسان ٢٠١٦م.