كرر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أثناء القمة الخليجية الأميركية الأخيرة في الرياض، ما كان وزير دفاعه آشتون كارتر قد دعا إليه الخليجيين قبل ذلك: “عودوا إلى العراق”. والعراق الذي وعد أوباما، المرشح، بإخراج القوات الأميركية من وحوله، هو البلد الذي تعود إليه تلك القوات بحماسة وهمّة وعزم هذه الأيام، لكن هذه المرة بأوامر وإشراف أوباما، الرئيس، الذي تشرف ولايته على الانتهاء.

يسجل للعراق أنه كان السبب الأساسي لإدخال أوباما إلى البيت الأبيض. يدين الرئيس لهذا البلد بالكثير في مسيرته المهنية، وها هو ينهي شهوره الأخيرة على رأس الإدارة الأميركية بالسعي لتسجيل إنجاز يكتب له في تاريخ العراق الحديث. تعيد واشنطن جنودها للإشراف على الحرب ضد داعش هناك، بما يشكّل عودة حقيقية للانخراط في الشأن العراقي، وإن كان هذه المرة من بوابة مكافحة الإرهاب الداعشي.

بيد أن الرئيس الأميركي يكتشف أن العلّة في العراق تتناسل بما ارتكبته إدارة بلاده أيام الرئيس جورج بوش الابن. جرت، حينها، صناعة عراق آخر تتحكمُ فيه أحزاب شيعية موالية لإيران، بما كشف تواطؤا موضوعيا بين طهران وواشنطن لإنتاج التشكّل العراقي الجديد. جرى تهميش المكوّن السني بصفته مسؤولا عن الظاهرة الدكتاتورية بزعامة صدام حسين، وبصفته، ربما، امتدادا لتطرّف سنّي عبّر عنه تنظيم القاعدة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد نيويورك وواشنطن عام 2001.

من ذلك الاختلال العراقي الكبير انتفخت أورام التطرّف في مسمياتها المختلفة من القاعدة حتى داعش. أنتجت “الحماقة” التي ارتكبتها واشنطن في العراق بيئات حاضنة لكل من يردّ ظلم بغداد عن مناطق السنّة في البلد، أيا تكن هويته وعقيدته وأجندته. قبل ظهور داعش كانت الصحف الغربية تنقل من قلب المدن السنية العراقية استياء الأهالي من تنامي أعداد المسلحين المجهولين الملثمين الذين ينتشرون في أحيائهم ويجهلون خططهم وهوياتهم ويتوجّسون من لهجاتهم البعيدة عن تلك العراقية. لكنهم مع ذلك، وحسب هذه الصحف، يفضلونهم ألف مرة على ما أطلقوا عليه “جند المالكي”. ورغم ما يقال حاليا عن سلوكيات داعش في مدينة كالموصل مثلا، فإن لسان حال السكان الشاجب لوجود تنظيم البغدادي والمستنكر لحكمه، على ما تنقل نفس الصحف الغربية، ما زالوا يفضلونه على العودة للخضوع لحكم بغداد.

“لا نريد الحشد الشعبي في مدننا”. هكذا جاءت تصريحات السياسيين ووجهاء المناطق السنّية، فيما تضفي بغداد على حشدها الشعبي هالة من القدسية والطهارة. وبمقابل موقف السنّة يقوم القنصل الأميركي في البصرة، ستيف ووكر، بعيادة جرحى الحشد الشعبي في المدينة ناقلا لهم “تحيات الشعب الأميركي” وشكره لهم. يعتبر السنّة في العراق، جماعات ونخبا، حتى المشاركين في العملية السياسية من المنخرطين في البرلمان والحكومة، أن الحشد الشعبي تنظيم طائفي يمارس إرهابا لا يختلف عن إرهاب داعش، فيما قنصل واشنطن في البصرة يراعيه ويرعاه ويشكره على إنجازاته. وحين أدلى السفير السعودي في بغداد ثامر السبهان أوائل هذا العام بتصريحات تشرح سبب رفض السنّة والأكراد (قبل أشهر من اشتباكات طوزخرماتو مؤخرا) لدخول الحشد الشعبي إلى مناطقهم، استدعت وزارة الخارجية العراقية السفير احتجاجا واعتبرت الأمر تدخلا، فيما دعا ائتلاف دولة القانون، بقيادة نوري المالكي، إلى طرد السفير من البلاد.

باسم محاربة داعش لا يلقى الحشد الشعبي المبارك إيرانيا المعاملة السلبية التي تعامل بها واشنطن حزب الله المبارك إيرانيا أيضا. الإدارة الأميركية مهووسة بمحاربة داعش، على الأقل في ما هو معلن على لسان الرئيس الأميركي، ومن أجل ذلك الهدف لا بأس من غضِ الطرف عن موبقات “الحشد”، وحتى شكره ورعاية أدائه.

والظاهر أن الولايات المتحدة اكتشفت مؤخرا عبث قتال التطرّف السنّي بتطرّف شيعي. خرج وزير الخارجية الأميركية جون كيري في سبتمبر الماضي بتصريح يتوقّع فيه تدخلا بريا ضد داعش تقوم به دول سنّية في المنطقة. أما في ديسمبر الماضي فقد حوّل وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر استشراف زميله كيري إلى دعوة علنية لتشكيل تحالف للدول السنّية لمحاربة تنظيم أبي بكر البغدادي. وحين أعلن وليّ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، عن استعداد بلاده للتدخل البري ضد داعش في سوريا والعراق، قوبل الأمر بغضب في طهران ورفض للفكرة في بغداد، وترحيب أميركي تلاه صمت خبيث.

يسوّق الأميركيون فكرة لا يمكن تمريرها في السياق الحالي للمنطقة. تعلم واشنطن استحالة القبول بالأمر في المستنقع المذهبي الرائج، لا سيما في العراق وسوريا، لكنها ممعنة في التلويح بالأمر على ما يشبه إلهاء العواصم الإقليمية بترياق مستحيل. لم يخرج أي ردّ فعل أميركي على إعلان الرياض انتقال طائرات حربية لقاعدة آنجرليك في تركيا، كما لم تتلفظ واشنطن بما يمكن اعتباره رعاية للاستعداد السعودي التركي (السنّي) لمكافحة داعش بريا، ذلك أن واشنطن غير معنيّة بمقاربة أهل المنطقة للقضاء على داعش، بل معنيّة بما ترسمه للمنطقة بحجّة التصدي لداعش. وما ترسمه الإدارة الأميركية وفق “عقيدة أوباما” يضع إيران في قلب الخطط الكبرى، وليس على الهامش الذي سيفرضه أي تدخّل حقيقي للدول السنّية ضد داعش.

مفتاح الحلّ العراقي لتسجيل نجاح أميركي في أواخر عهد أوباما يكمن في مناطق السنّة وليس في بغداد. تتحدث واشنطن عن الأمر بلغة مذهبية تطيح دوليا بأي أمل لاستعادة عراق عراقي لا تشوّهه فتنة السنّة والشيعة. ففيما يدعو أوباما دول الخليج إلى العودة إلى العراق، يفصّل كارتر هذه الدعوة بتدخّل اقتصادي لإنماء وإعمار المناطق السنية. بكلمة أخرى تتأسس استراتيجية الولايات المتحدة الراهنة على دعم حكومة حيدر العبادي سياسيا ودعم القوات الحكومية عسكريا ورعاية ميليشيات الحشد المدعومة إيرانيا، فيما المطلوب من دول الخليج أن تغطي تلك الاستراتيجية سنّيا، وعلى حساب تلك الدول ماليا دون أي عائد جيو استراتيجي مقابل.

سيلاحظ المراقب بسهولة أن الرئيس أوباما وفريقه لم يستوعبا التحوّلات الكبرى التي طرأت على دول الخليج، لا سيما في مقاربتها للأمن الإقليمي. وواضح أن واشنطن لا تريد الاعتراف بالعامل الإيراني بصفته المحدد المفصلي الخليجي للخيارات الأمنية، وأن دول الخليج التي يدعوها أوباما وكارتر إلى العودة إلى العراق لن تحمل ماء مجانيا للطواحين الإيرانية هناك. ثم إن أصحاب القرار الخليجيين يتذكرون أن واشنطن نفسها هي التي منعت انخراط العرب في الشأن العراقي منذ غزو عام 2003، وأن تلك المقاربة الأميركية عملت مسهّلا لتمدد النفوذ الإيراني داخل تلك الدولة على النحو الذي جعلها عاصمة لـ”الامبراطورية الإيرانية” على حدّ تعبير التصريح الشهير لمستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني (وليس خامنئي) للشؤون الدينية والأقليات، علي يونسي.

بالمحصلة تندرج الدعوات الأميركية الأخيرة في إطار علاقات عامة تستخدم في السوق العراقي (التحق بها حيدر العبادي باتصاله المفاجئ مع عدد من الزعماء العرب). تعرف واشنطن أن الخليجيين لن يعودوا إلى العراق، أو إلى هذا العراق، وفق المعطيات الحالية، وأن ردّ الفعل الخليجي سيكون متريثا وذا إيقاع متمهل، ذلك أن العزم على التدخل البري ضد داعش، كما مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، أساس في أي استراتيجية حقيقية ضد الإرهاب بالنسبة إلى الخليجيين، وهو أمر لا تعترف به “عقيدة أوباما”، ولا يهتم له أهل الحكم في بغداد.

 

الكاتب محمد قواص

العرب