قال الرئيس باراك أوباما في 10 نيسان (ابريل) الجاري لمحطة «فوكس نيوز» أن أسوأ خطأ ارتكبه في رئاسته كان التقصير في التخطيط لمرحلة ما بعد سقوط معمر القذافي في ليبيا، «كان الخطأ في عدم التخطيط لليوم التالي وهذا ما كان يجب فعله قبل التدخل في ليبيا».
كان أوباما قد حمّل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون مسؤولية هذا الفشل في مقابلة مع جيفري غولدبيرغ نشرتها الشهر الماضي مجلة «أتلنتيك» تحت عنوان «عقيدة اوباما». ولم يسلّم الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي من انتقادات اوباما، الذي اعتبر أن عملية التدخل في ليبيا قد حصلت في شكل جيد، ولكن لم يقم الأوروبيون (بحكم قربهم الجغرافي من ليبيا) بما يلزم لمنع الوصول الى المأزق الراهن.
لم تكن المرة الأولى التي ينتقد فيها أوباما عملية التدخل في ليبيا، فقد سبق أن تحدث عن ذلك في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2015، حيث قال «كان يمكن لتحالفنا لا بل كان يجب عليه، أن يقوم بما يلزم لتعبئة الفراغ الذي تركناه وراءنا».
لا يمكن تغطية الفشل في تحقيق الاستقرار والتحرك نحو حكم ديموقراطي في ليبيا بتوجيه اوباما الاتهامات باتجاه حلفائه الأوروبيين، حيث يدرك الجميع أنه لا يمكن للتدخل الأوروبي أن يكون حاسماً في غياب القيادة الأميركية عن مسرح العمليات.
اعترف نائب مستشار الأمن القومي الأميركي بن رودس بهذا الأمر، حين اعتبر أن دخول الميليشيات الليبية الى المدن والسيطرة عليها قد فتحا الباب أمام «داعش» للدخول الى ليبيا، وأن ما حدث قد جاء نتيجة عدم استكمال القوى الغربية مهامها بسبب غياب القيادة الأميركية انطلاقاً من «المقاربة التي اعتمدها الرئيس أوباما للسياسة الخارجية وللتدخل العسكري». ووصف أحد أركان البيت الأبيض هذه المقاربة بـ «القيادة من الخلف».
كان أحرى بالرئيس أوباما أن يدرك أن الوضع في سورية، التي تشهد حرباً طاحنة منذ خمس سنوات، هو أسوأ وأشد خطورة ودرامية من الوضع داخل ليبيا، خصوصاً لجهة تقييم أخطار الإرهاب المتمثل بـ «الدولة الإسلامية»، حيث ينتشر في ليبيا ستة آلاف مقاتل من «داعش» مقابل ما بين ثلاثين وخمسين ألفاً في سورية.
كان من المفترض أن يدرك الرئيس أوباما أيضاً أن «الدولة الإسلامية» تقوم على أجزاء واسعة من سورية والعراق وأنها تصدر من سورية أيديولوجيتها ومقاتليها إلى ليبيا وإلى دول أخرى. إن الإرهابيين الذين نفّذوا عمليات باريس وبروكسيل قد خططوا لذلك انطلاقاً من مدينة الرقة السورية.
المفارقة الكبرى بين الوضعين الليبي والسوري أنه في وقت توصلت جهود الأمم المتحدة الى تشكيل حكومة وفاق وطني بدأت ممارسة أعمالها من طرابلس، فإن الأوضاع الميدانية داخل سورية والمفاوضات الجارية في جنيف الآن لا توحي إطلاقاً بقرب التوصل الى مخرج للأزمة السورية.
في أفضل السيناريوات المطروحة الآن على طاولة المفاوضات، فإن الرئيس الأسد باق في السلطة طيلة الفترة الانتقالية (18 شهراً) وسيكون له حق الترشح لرئاسة جديدة.
ويؤشر أي تقييم واقعي للوضع الميداني وللنتائج المتوقعة من المفاوضات بأن الرئيس الأسد لا يرغب في اية مشاركة للمعارضة في الحكم، وبأن عمليات القتل والتدمير ستستمر لسنوات.
يقدم أوباما ومساعدوه بين الحين والآخر الحجج والدوافع التي أجازت التدخل العسكري في ليبيا لإطاحة القذافي وخصوصاً ما يعود منه لوجود إجازة دولية، ومشاركة دول حلف شمال الأطلسي في تنفيذ الهجوم الجوي ووقف قتل المدنيين الليبيين. لكن يتجاهل أوباما كلياً ما تسببت به الأزمة السورية من نتائج كارثية على الصعيد الإنساني وللدول الحليفة لأميركا مثل تركيا والأردن ولبنان. كما يتجاهل حجم الدمار الذي أصاب سورية وكلفة إعادة الإعمار على المجتمع الدولي والتي تقدّر بمئات بلايين الدولارات.
لا يمكن مقارنة أهمية ليبيا من الناحية الاستراتيجية بأهمية موقع سورية الجغرافي ودورها في الاستقرار الجيوسياسي على مستوى الشرق الأوسط. ستترك سياسة أوباما تجاه الأزمة السورية مفاعيلها السيئة على الأمن القومي الأميركي وعلى سياسة الرؤساء الأميركيين الذين سيخلفون، حيث ستبقى المسؤولية الأميركية عن سقوط مئات آلاف المدنيين حية في أذهان جيل كامل من الشعب السوري والشعوب العربية الأخرى.
ولا تقتصر نتائج سياسة أوباما تجاه سورية على سقوط هذه الأعداد الضخمة في صفوف المدنيين أو على تدمير معظم المدن السورية، بل تتعدى ذلك الى تفاقم الأزمة إقليمياً ودولياً، وبالتالي دفعها نحو مسار لولبي خطير خارج عن كل ضوابط السيطرة الديبلوماسية والعسكرية.
فتحت سياسة أوباما المترددة تجاه الأزمة السورية الباب على مصراعيه أمام تدخل ايران عسكرياً في سورية والعراق عبر دفع الميليشيات العراقية والأفغانية و «حزب الله» للقتال الى جانب النظام السوري، وأضافت إليها لاحقاً وحدات من الحرس الثوري الإيراني كما عززتها مؤخراً بتدخل لواء من القوات الخاصة التابعة للجيش.
واستغلت روسيا الفراغ الحاصل من الغياب الأميركي والأوروبي من أجل العودة بقوة الى المسرح الجيوستراتيجي الشرق أوسطي من البوابة السورية. واستطاعت موسكو من خلال دعمها الجوي غير المحدود للنظام السوري تغيير موازين القوى على الأرض وعلى المستويين الاستراتيجي والديبلوماسي، وربما مكّنها ذلك من قيادة اللعبة ميدانياً وعلى طاولة المفاوضات في جنيف. شعر بوتين في أكثر من محطة بضعف موقف أوباما في سورية وتجاه المنطقة وتحيّن الفرص لاستغلال هذا الضعف، بعدما رفض الرئيس الأميركي اقتراحاً بالتدخل في سورية قدمه أربعة من كبار مساعديه الأمنيين من بينهم وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون والجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة والجنرال دافيد بيترايوس مدير وكالة الاستخبارات المركزية. وجاء تراجع أوباما «المشين» عن «الخطوط الحمر» التي رسمها للنظام السوري لجهة تحذيره من استعمال الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. والمؤسف جداً أن أوباما يفخر بتراجعه عن تهديده بمعاقبة النظام السوري وذلك بحجة أن التدخل كان يفتقر الى إجازة قانونية دولية والى موافقة مسبقة من الكونغرس، والتي لم تكن متوافرة في حينه.
رأى أوباما في مقابلته مع غولدبيرغ أنه نجح وبمساعدة روسيا في التخلُّص من المخزون الكيماوي السوري، لكن غولدبيرغ نفسه يرى أن تراجع أوباما عن توجيه ضربة جوية للنظام السوري قد تسبّب بتراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وعبّد الطريق أمام روسيا وايران و «الدولة الإسلامية» لاستغلال هذا الضعف الأميركي في سورية.
باءت جميع الجهود الديبلوماسية الروسية والأميركية من أجل انعقاد محادثات جنيف بالفشل، بعد إعلان المعارضة تأجيل المفاوضات اعتباراً من 19 نيسان (ابريل)، وربطت العودة بمجموعة شروط أبرزها قبول النظام السوري التفاوض على تشكيل هيئة للانتقال السياسي.
يرى الجنرال بيترايوس أن «الفكرة الكبرى» التي فاتت أوباما من أجل اعتماد مفاهيم بديلة لسياسته الفاشلة في سورية هي أن مفاعيل الحرب لن تقتصر على الجغرافيا السورية وأنها ستولّد عدم استقرار وعنفاً وتطرفاً وموجات من النزوح تتعدى دول الجوار وتغطي معظم دول القارة الأوروبية.
يشارك اوباما في تحمُّل هذه المسؤولية الجسيمة حلفاؤه الأوروبيون الذين فشلوا أيضاً في تقييم الأخطار المقبلة على أمنهم الوطني، وكان عذرهم في ذلك عدم توافر قيادة أميركية حازمة لشن عملية عسكرية حاسمة على غرار ما حصل في ليبيا.
نزار عبد القادر