لا أعرف إذا كانت المفاضلة تجوز بين احتلال واحتلال ؟ أو أنه من المستحب المقارنة بينهم، أو حتى ذكر فضيلة ما يمكن أن يخلفه المحتل بعد جلائه أو انسحابه، فالمحتل بمجرد كونه محتلاً فهو عدو حتما، والاحتلال أمر بغيض بلا شك ولا ريب، يبقى أن المقصود بذكر آثاره التي يتركها أي احتلال هي بما تشكل من قيمة معرفية تحدد حجم العداء والحقد والبغض الذي كان يمارسه إبان احتلاله، ويعرفنا أيضا عن مخزون المحتل الثقافي والفكري لنستفيد في تحديد الخطوات المستقبلية وكيفية التعاطي معه بعد مرحلة سحب جيوشه من أرضنا .
معلوم أنه قد تعرض لبنان إلى العديد من الاحتلالات، إن في التاريخ القديم قبل إنشائه كدولة مستقلة لها حدودها المعترف بها دوليا، أو بالتاريخ الحديث وبعد قيام لبنان الكبير، ولمعرفة كل حقبة من تلك الحقبات ومقاربتها ودراستها فإنك ببساطة يمكنك الرجوع إلى ما تركه المحتل خلفه ودراسة آثاره للتعرف على دوره وما كان يفعل عندنا وما يمكن أن يضمره لنا الآن .
القلاع العظيمة المنتشرة على كل الجغرافيا اللبنانية من بعلبك الى طرابلس مرورا بجبيل وصيدا ووصولا إلى قلعة الشقيف وتبنين وغيرهم الكثير من القلاع الشامخة والتاريخية التي صارت تشكل معالم أثرية نتفتخر بوجودها على أرضنا بعد أن كانت واحدة من رموز تسلط الجيوش الاجنبية علينا (رومان - بيزنطينين - مماليك - عثمانيين..) هذا حين الغوص بأعماق التاريخ القديم .
ومع الإنتقال إلى التاريخ الحديث، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو الاحتلال الفرنسي لبلادنا وإن سمي يومها بالإنتداب للتخفيف من وطأته، إلا أنه كان احتلالا بكل ما للكلمة من معنى، وقد استمر الجيش الفرنسي جاثما على أرضنا لأكثر من عشرين عاما (1943- 1920) وإذا أردنا إحصاء ما خلفه وراءه هذا الاحتلال، فإننا لا نستطيع حصره بهذه العجالة فنكتفي بالاشارة فقط إلى بعضه ليكون قيام لبنان الوطن وتكريس مفهوم الدولة كواحد من أهم انجازات تلك الحقبة عدا عن الكثير من الانجازات الانمائية قد يبدأ بالتنظيم المدني ولا ينتهي بذكر معلّمٍ واحد من تلك الردحة الزمنية هو حرش بيروت مثلا .
وحتى الاحتلال الاسرائيلي البغيض، فإن أهالي الجنوب يعرفون بأن المحتل الغاصب واللعين قد ترك خلفه عشرات الطرقات التي شقها وزفّتها وما الطريق الواصل من جسر القعقعية صعودا إلى قرى دير سريان الطيبة إلا واحداً من هذه الطرقات التي توفر على القاصدين إلى تلك المناطق مسافات كبيرة وأوقات طويلة جدا .
وأما الاحتلال السوري " المرِتّ " والذي جثم على صدور اللبنانيين لأكثر من عقدين فلم تنته مفاعيل احتلاله لبلدنا حتى لحظة كتاتبة هذه السطور، ومع أننا أحيينا بالأمس ذكرى انسحاب جيش الأسد عن أرضنا، إلا أنه وكما هو معروف فإن هذا النظام قد خلّف وراءه كما كل الاحتلالات السالفة أيضا ما يذكرنا به وبأيامه السوداء على الدوام، وبما أننا في وارد ذكر واحدة على الأقل من مخلفات ما تركه المحتلون فيكفي ها هنا لنعرف ما نحن فيه الآن، وما كنا عليه إبان الإحتلال بأن ندرك أن من أبرز ما خلفه لنا النظام السوري من آثار هو تلك الطبقة السياسية التي تشببهه تماماً، فالقلاع التي بناها نظام الأسد وزرعها في ربوعنا أيضا هي معالم " شامخة " وآثار واضحة تكشف عن مكنونات تلك الحقبة، ويكفي ذكر "قلعة" إسمها جميل السيد (صديق ميشال سماحة) حتى نتيقن بالدليل والبرهان أن الاحتلال الأسدي للبنان كان من أنجس وأقذر الاحتلالات التي مرت علينا والتي عانى منها لبنان على الاطلاق .