ليس لأنهم لا يحبون الحياة لكن لأن اللبنانيين استسلموا لمقاديرهم وتقاعسوا عن المطالبة بالحدود الدنيا لحقوقهم التي يتاكلها فساد الطبقة الحاكمة المتسلطة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والمعيشية والمتحكمة بالقرارات المصيرية للبلد.
فاللبنانيون شعب مكافح يحب الحياة ولكنه ساهم في صناعة ظروف كانت قاسية فرضت عليه الانصياع لمؤثرات خارجية فتحول إلى أدوات تتلقى وتنفذ مع تعطيل كامل لمداركه العقلية التي افقدته قوة الاعتراض، ولو كان في ذلك هلاك أبنائه وازهاق أرواحهم.
فالحرب الأهلية التي دامت لأكثر من خمسة عشرة عاما فتحت قنوات لقوى خارجية عبرت خلالها إلى الداخل اللبناني لتنفيذ مشاريع خاصة بها وتخدم مصالحها فتعاملت مع افرقاء لبنانيين تحولوا مع الوقت إلى عملاء لها، وغالبا ما كان التعامل الخارجي مع أطراف داخلية لبنانية يقوم على اساس طائفي ومذهبي حيث يتم استغلال الدين لاستنهاض الأفراد من لون معين ضد باقي أبناء الشعب من ألوان أخرى.
ومع استمرار الحرب برز من كل طائفة مجموعة تولت التعامل مع دولة أجنبية على أساس تبادل المصالح، فالخارج كان يدعم بالمال والسلاح لهذه المجموعات التي كانت تتولى عملية الترويج لمشاريعه التخريبية لمقومات الوطن ومؤسساته والقائمة على تعطيل الحياة السياسية فيه للنفاذ إلى موقع القرار للتحكم فيه وتوجيهه بالاتجاهات التي تخدم هذه المشاريع المشبوهة.
وقد استطاعت هذه المجموعات وبقوة السلاح والمال ان تصادر قرارات طوائفها وتفرض عليها خيارات وإن كانت تتعارض مع مصلحة أبنائها وتعمل على إلغاء الرأي الآخر من داخل الطائفة نفسها ولو أدى ذلك إلى استخدام وسائل الإكراه والترهيب والضغط وحتى القتل في بعض الاحيان.
وقد تولت هذه المجموعات إدارة الحروب الداخلية بشراسة ووحشية مسقطة كل المحرمات التي تقتضيها المعايير الأخلاقية والإنسانية والمواثيق الدولية، علما أن هذه الحروب كانت خاضعة لحسابات إقليمية ودولية ومشاريع خارجية وكلها على حساب المشروع الوطني الذي وحده يحمي الوطن والمواطن من المخاطر التي تتهدده من كل حدب وصوب وخصوصا من العدو الإسرائيلي ولاحقا من الإرهاب الذي نما وترعرع ونشط في دول الجوار خاصة في سوريا والعراق.
وهذه المجموعات التي تأطرت على شكل أحزاب وميليشيات وتنظيمات وقادت الحروب المتنقلة على كافة الأراضي اللبنانية هي نفسها تسلمت مقاليد السلطة وتولت حكم البلد وفقا لمشاريعها المرتبطة بالمشاريع الإقليمية، فعمدت إلى تعطيل الدولة بكافة أجهزتها ومؤسساتها ليتسنى لها استباحة البلد ويسهل اقتسام مغانمه فتحولت إيرادات المرافق العامة للدولة إلى حصص تدخل في جيوب المتنفذين أصحاب الحظوة. فتضاءلت الموارد التي ترفد خزينة الدولة رويدا رويدا حتى وقعت البلاد في عجز جاوز الستين مليار دولار حسب أقل التقديرات.
مما افقد الليرة اللبنانية قوتها الشرائية. الأمر الذي انعكس بشكل مأساوي على المواطن لدرجة ان أكثر من نصف الشعب اللبناني يعيش تحت خط الفقر، وما أضاف من معاناته تدفق ما يزيد عن المليونين نازح سوري هربوا من أتون الحروب التي تدور رحاها على كافة الأراضي السورية.
كل ذلك والمواطن يعيش مسلوب الإرادة يرى حقه يضيع أمام عينيه. ولقمة عيشه تسرق من فمه دون أن يبادر إلى المطالبة بما يكفيه ذل السؤال واستقراره وأمنه ويؤمن مستقبل أبنائه، مستقيلا من مسؤولية التحرك ورفع الصوت بوجه الحاكم الظالم الذي يحرمه نعمة العيش باكتفاء وطمأنينة، فتحول إلى عنصر سلبي ومتخاذل وانهزامي في المجتمع.
مما أتاح لهذه الطبقة السياسية الفاسدة المزيد من التغول والانغماس أكثر تجارة الممنوعات والصفقات المشبوهة والمحرمة والسمسرات والفساد، كل ذلك والوطن بلغ حافة الانهيار وهو يضيع بين سلبية المواطن وطمع الحاكم.