في الطائرة من نيويورك الى بيروت، بدا الرئيس تمام سلام وكأنه عائد من كوكب آخر. زعماء من 174 دولة وقعوا على اتفاق باريس للحد من ارتفاع حـرارة الكوكـب. سأل ضاحكاً «ومتى يوقع زعماؤنا على الحد من ارتفاع الحرارة في كوكبنا». الكوكب اللبناني بطبيعة الحال...
النيران السياسية على اشدها، البلد امام مشهد «مسيحي» مختلف بعدما بدا ان اعلان النوايا الذي وصف في 18 كانون الثاني المنصرم كما لو انه ظاهرة او تظاهرة فولكلورية سرعان ما تحول الى تفاهم استراتيجي حول السياسات الداخلية بدءاً من الانتخابات البلدية، وصعوداً الى الانتخابات الرئاسية حفل زفاف وبما تعنيه الكلمة.
وكان الوزير فؤاد بطرس قد قال ان على المسيحيين تأدية صلاة خاصة كي ينزل السيد المسيح ثانية على الارض من اجل مصالحة العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع لانهما تجاوزا الخط الاحمر في المواجهة.
لا بل ان احد الكرادلة، وفي ضوء التقارير التي كانت تصل من السفارة البابوية في بيروت، قال لشخصية لبنانية تمنت توسط الفاتيكان في ارساء التآلف بين الاقطاب المسيحيين، ان المسألة قد تحتاج الى «مجمع مسكوني»...
حدثت معجزة وتأبط الحكيم ذراع الجنرال، واذ تطـورت العلاقات بين الاثنين على نحو دراماتيكي وفي ظل اغنية «اوعاخيك» بدأت جهات مسيحية وغير مسيحية تحذر من ان «الجموح» في التنسيق بين التيار الوطني الحر و«القوات اللبنانية» والى حد تجاوز الخط الاحمر سيؤدي الى «مشكلة مسيحية» و«مشكلة لبنانية» ايضاً.
جهات مسيحية تتخوف من ان تنقل تلك الثنائية المسيحيين من الديموقراطية الى الديكتاتورية، وعلى غرار ما يحدث لدى الطوائف الاسلامية، وحيث التعليب السياسي والايديولوجي في ذروته.
اما الجهات الاخرى، فتشير الى ان اتفاق الطائف والذي انتج دستور الجمهورية الثانية ارسى خارطة للتوازنات الطائفية على اساس اطلاق ديناميكية دستورية (وسيكولوجية) لاسدال الستار على كل ما يمت الى الحرب الاهلية بصلة وبالتالي المضي في تلك التوازنات. اما الذي يحصل حالياً لجهة فرض شروط معينة حتى على جلسات المجلس النيابي، فلا يتوقف عند ضرورة بلورة آليات لوضع الاتفاق موضع التنفيذ بل يتجه الى البحث عن اتفاق آخر، وربما السير باتجاه المؤتمر التأسيسي.
بعض ما يقال لدى اوساط سياسية اسلامية يدفع بالشكوك وبالهواجس الى ابعد من ذلك بكثير، والى حد القول ان رئيس حزب «القوات اللبنانية» ورئيس تكتل التغيير والاصلاح يجران البلد نحو الفيديرالية.
لا بل ان نائبا شمالياً يتحدث عن سيناريو خفي لدى الاثنين من اجل فرض المشروع الارثوذكسي (اي كل طائفة تنتخب نوابها) وهذا يعني، من اللحظة التي يتم فيها اقرار هذا المشروع في المجلس النيابي ان الدولة اللبنانية «طارت» واصبحت امام خيارين اما الكونفيدرالية او...التقسيم!
لكن وزيراً سابقاً للداخلية يقول ان من غير الواقعي تصويب النيران على عون وجعجع بتلـك الطريقة، اذ ان غالبية المسيحيين يشعرون وكما قال البطريرك مار بشارة بطرس الراعي حين كان راعياً لابرشية جبيل بأن السنة والشيعة يتصارعان من اجل وراثة... الموارنة.
استطراداً، وكما يقول الوزير السابق فان المسيحيين يستعرضون ما حدث لهم على مدى الربع قرن المنصرم لجهة تهميش دورهم في ادارة الدولة حين يؤتى برؤساء للجمهورية اما انهم تحت السيطرة المطلقة (الوصاية السورية) او... بوزن الذبابة.
ويعتبر ان المسيحيين يرون ان قانون الانتخاب الذي لا يقل في فاعليته عن الدستور ضرب التوازن، بل وضرب الميثاقية في العمق، حين كرس معادلة «ناخب الدرجة الاولى» و«ناخب الدرجة الثانية»، فالناخبون المسيحيون لا يؤثرون في اي من الدوائر الانتخابية المختلطة فيما يؤثر الناخبون المسلمون بل ويشكلون مركز الثقل في اختيار النواب المسيحيين.

ـ البطة العرجاء ـ

هذا الكلام يقال في الضوء، كما في الظل، في سياق الجدل حول الجلسة التشريعية، وعلى اساس انه ما دام قصر بعبدا مقفلاً، والجمهورية بطة عرجاء، لا مجال للتكيف مع هذا الواقع، وعلى المسيحيين ان يضغطوا بكل ما اوتوا من القوة، لخشيتهم من الكلام الاميركي والفرنسي حول تغيير في الخرائط، وبطبيعة الحال في الصيغ.
مراجع سياسية وروحية مسيحية تعتبر ان السياق الذي تأخذه التطورات، يتقاطع المحلي محل الاقليمي، يتجه نحو تسوية سنية - شيعية في لبنان، ودون معرفة اين موقع المسيحيين في هذه الحال؟
لا بل ان مطرانا بارزاً يقول لـ«الديار» انه سمع من جهة اوروبية كلاما يبعث على الهلع، فالمسيحيون الذين يدعون الى اعادة النظر في المادة 49 من الدستور لتأمين الموازاة بين الصلاحيات والمسؤوليات، قد يفاجأون بنزع صلاحيات اضافية من رئيس الجمهورية اذا لم يحدث للمسيحيين ما حدث لمسيحيي سوريا والعراق..

ـ تشاؤم.. ـ

ربما يعكس هذا الكلام افراطاً في التشاؤم، لكن ما يقال علناً (واخر مظهر لذلك كلام النائب ابراهيم كنعان وملحم الرياشي خلال احدى المناسبات في الاسبوع الفائت) وما يقال خفية في اوساط التيار الوطني الحر و«القوات اللبنانية» يشي بوجود مخاوف مسيحية حقيقية من الاستمرار في التهميش، ومن التذويب، او من تواصل القضم..
وبعبارة اخرى، فان الموقف من الجلسة التشريعية ما هو الا الجزء الظاهر من جبل الجليد، وان كان الرئيسان نبيه بري وسعد الحريري وبينهما الرئيس تمام سلام بطبيعة الحال، يعتبران ان المسيحيين هم في اساس لبنان، وان احداً لا يمكن ان «يتواطاأ» ضدهم او ان يحد من حضورهم السياسي بل ومن فاعليتهم السياسية.

ـ نكون او لا نكون ـ

وبالتالي، فان اثارة عون وجعجع كل ذلك الغبار انما له هدف واحد هو الوصول بالجنرال الى قصر بعبدا ليشق الطريق امام الحكيم، كما تردد جهات لا تكن الود للاثنين.
وليس سراً ان بعض المواقف التي تصدر عن بعض القيادات المسيحية تصدم بري والحريري سوية، فالاثنان يعتبران ان اللبنانيين كلهم، وليس المسيحيون وحدهم في مرحلة مصيرية «نكون او لا نكون» الجمهورية اللبنانية مثل العربة التي يجرها حصانان.
مصادر عين التينة تقول ان الحل لرئاسة الجمهورية او لقانون الانتخابات الذي قد يكون اكثر تعقيداً بكثير، لا يكون باقفال المجلس النيابي، وانما باحداث مناخ افضل للتشريع الذي قد يساعد، تدريجياً، على نقل البلاد من الاحتقان (واحتمال الانفجار) الى التوازن (واحتمال الانفراج).

ـ زعزعة الزعامات ـ

في هذا الوقت، وتيرة الانتخابات البلدية تتسارع، وخوف من ان تفضي هذه الانتخابات الى زعزعة بعض الزعامات. وانطلاقاً من واقعة «انفلونزا الطيور» يحكى الآن عن «انفلونزا النجوم»، لدى التيار الوطني الحر و«القوات اللبنانية» شعور بان الطرفين امام اختيار استراتيجي ليس فقط لتأكيد وجودهما على الارض، وانما لتكريس دورهما في صناعة المسار السياسي العام في البلاد.
واذا كان الخارجون على الثنائية الشيعية يعاملون كما «الخوارج»، فالكتلة السنية تختزل، مبدئياً، بالرئيس سعد الحريري، الذي اذ سمى جمال عيتاني لرئاسة المجلس البلدي في بيروت، تطل مشكلته الحقيقية من طرابلس.
الذي ظهر جلياً في الآونة الاخيرة، ان الرئيس نجيب ميقاتي سيد اللعبة في الفيحاء، وان ائتلافاً بينه وبين الوزيرين السابقين محمد الصفدي وفيصل كرامي يضع رئيس تيار المستقبل في الزاوية، دون ان يستطيع هذا الاخير الذي يطرح نفسه كرمز للاعتدال ان يمد يده الى الجماعات السلفية، بخلفياتها وبامتداداتها الضبابية.
ومن قبيل التوصيف «الدقيق» لطرابلس، يقول رجل اعمال بارز هناك لـ «الديار»: ان الفقراء في المدينة بعدد سكان الصين، كما ان الاحياء الفقيرة قد تكون نسخة طبق الاصل عن احياء كلكوتا (الهندية).

ـ 40% مع ميقاتي ـ

كلام كثير عن المال الذي ينشره ميقاتي على المعوزين، والى حد التأكيد ان حوالى 40 في المئة من ناخبي المدينة يميلون اليه، حتى ان في الطبقات المتوسطة والطبقة العليا من يعتبر ان عاصمة الشمال بحاجة الى زعامة سياسية لكي لا تكون تابعة لبيروت او لصيدا.
في الكواليس، يتردد ان الحريري الذي يعرف ما هي المفاعيل السياسية الخطيرة لخسارته او لتهميشه في انتخابات طرابلس استغاث بالرياض التي دفعت في اتجاه الائتلاف او التوافق في المدينة، واختيار عمر الحلاب رئيساً للائحة التوافق.
بيروت الكلوسموبوليشية بارقامها (250 الف ناخب سني و135 الف مسيحي و65 الف شيعي) تواجه، للمرة الاولى، ائتلافا بين قوتين «مقاتلتين» (اي التيار والقوات) دون ان يكون من السهل على الحريري تسمية المرشحين المسيحيين ان باختيار شخصي يرتبط بشبكة المصالح او بالتنسيق مع مرجعيات حزبية او روحية.
وهنا يقول نائب مسيحي عضو في كتلة المستقبل ان باستطاعة «الشيخ سعد» اكتساح غالبية المقاعد بالصوت السني لكن «ادبيات» آل الحريري الذين تتمحور زعامتهم حول مفهوم الاعتدال تمنعه من ذلك. ماذا اذا «بالغ» الثنائي الماروني في طلباته؟

ـ السنيورة : انا المنتصر ـ

في صيدا، وهي مسقط رأس الرئيس رفيق الحريري، لا مجال لكسر لائحة رئيس البلدية الحالي محمد السعودي الذي تثني الغالبية على ادائه وانجازاته. ولكن اذا فازت اللائحة هل يكون المنتصر سعد الحريري ام فؤاد السنيورة، كما في بيروت، كذلك في صيدا، محاولات من السنيورة، ومن وراء الستار لاظهار انه بات يشكل هيئة شعبية وسياسية خاصة به، وليس تابعاً لـ «الست ام نادر» او لابن شقيقها.
آخر اخبار زحلة تبدو وكأنها في اتجاه حصول طلاق بين التيار و«القوات»، بيار فتوش، شقيق النائب نقولا فتوش، زار العماد ميشال عون، وكان حديث طويل حول كل تفاصيل الوضع في عروس البقاع، ومحاولة البعض ابتلاع التيار او استخدامه في المعركة.
وتردد ان يوسف سكاف سيرأس لائحة تضم 13 مرشحاً للسيدة ميريام سكاف، وخمسة للتيار، وثلاثة لفتوش، مع احتمال احداث تعديل في الارقام.

ـ اما جنبلاط... ـ

واذا كان الحريري، وبدعم اقليمي، وجد من يحل له عقدة طرابلس، فما هي اخبار النائب وليد جنبلاط الذي يسأل احد خصومه ما اذا كان «البيك يضحك على نفسه قبل ان يضحك على الناس» حين قال ان باستطاعته اعلان النتائج من الآن في منطقته باستثناء اقليم الخروب.
اللعبة الانتخابية (والصراع حول الاحجام) في هذا الاقليم حيث يشكل السنّة ثلث الكتلة الناخبة في القضاء (الشوف) والمسيحيون الثلث الثاني، دون اغفال بلدات محورية في الشوف.
وللمرة الاولى يواجه الزعيم الدرزي ائتلافاً بين القوتين المسيحيتين الاكبر، عون وجعجع من يحددان وضع المجالس البلدية في البلدات المسيحية. هناك دير القمر، برمزيتها التاريخية وبشكلها الجمالي على الصعيد اللبناني وحتى على صعيد المنطقة.
في المرة السابقة «عيّن» جنبلاط رئيس حزب الوطنيين الاحرار دوري شمعون رئيساً لبلدية دير القمر التي تعني كثيراً، على مستوى الزعامة، بالنسبة الى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي.

ـ حرب تحرير ـ

نموذج آخر لا يقل حساسية، بلدة الدامور الساحلية ذات الكتلة الناخبة المرتفعة والتي عرفت مثل دير القمر، بانتاجها العديد من الشخصيات المرموقة. الجهة الوازنة هنا التيار و«القوات».
والطريف ان يرى البعض في مناطق الشوف ان الانتخابات البلدية ستكون بمثابة «حرب تحرير» للمناطق التي خضعت، ومنذ مطلع التسعينات من القرن الماضي لـ «الوصاية الجنبلاطية»، التيار و«القوات» قوة الصدم في انتخابات «امارة الشوف»، ماذا يقول سيد المختارة؟ قالها منذ فترة «مصيبة»، وقد يكون الوضع بالنسبة اليه اكثر تعقيداً ما دام قد قرر اخلاء مقعده النيابي، وربما دوره السياسي لنجله تيمور، مشكلة ان يكون الابن امام خارطة جديدة للقوة وللقوى، في الشوف الذي طالما تم التعامل معه على انه الفناء الخلفي لقصر المختارة.