لم تتمكن المقدمات الكلامية في ربع الساعة الأخير من عهد باراك أوباما من إصلاح ما أفسد عهده في العلاقات بين أميركا وحلفائها الخليجيين وخصوًصا المملكة العربية السعودية٬ وهكذا كل ما قاله جوش إرنست قبل ساعات من وصول أوباما إلى الرياض٬ عن أن إيران تتصدر قائمة الإرهاب وتاريخها طويل في دعم الأنشطة الإرهابية في العالم٬ وكل ما حاول آشتون كارتر أن يبرزه من إيجابيات لم يتمكنا من إقناع أحد بإمكان العودة إلى الحرارة في العلاقات الأميركية السعودية والخليجية.
بالفعل إنها زيارة تاريخية بكل المقاييس٬ وما يحدد تاريخية مثل هذه الزيارات٬ ما ينتج عنها سواء لجهة الاستمرار في حرارتها٬ أو انعطافها إلى البرودة٬ أو في سلوكها نهًجا جديًدا يحدده تبدل في فهم أبعاد هذه العلاقة عند الجانبين٬ وعلى هذا الأساس عندما يقول الأمير تركي الفيصل لمحطة C.N.N إن الأيام الخوالي بين واشنطن والسعودية قد انتهت إلى غير رجعة٬ فإن ذلك لا يعني إطلاًقا الذهاب إلى القطيعة بدلاً من التعاون الوثيق.
هذا يعني بالضرورة أنه يجب إعادة تقويم هذه العلاقات في ضوء ما قال الأمير تركي «إن أميركا تغَّيرت بمقدار ما تغَّيرنا٬ وهناك جانب إيجابي في تصرفات الرئيس أوباما وتصريحاته هو أنها أيقظت الجميع أن هناك تغييًرا في أميركا٬ وأن علينا أن نتعامل مع هذا التغيير».
لطالما قيل لأوباما المتهافت على إيران والاتفاق معها٬ حتى في سياق مفاوضات كانت تجري خلسة في عمان من وراء ظهر حلفائه الخليجيين٬ ورافقتها عربدة طهران في المنطقة٬ ولماذا نستبدل حلفاءنا التاريخيين الموثوقين بالخليج بأعدائنا غير الموثوقين بإيران٬ لكنه قفز فوق كل هذا وأبرم اتفاًقا اعتبره تاريخًيا مع الذين كانوا يحتفلون به في طهران وسط هتافات «الموت لأميركا». نعم إنها زيارة تاريخية وفق مقياس المفهوم والعميق والضروري الذي يطرحه الأمير تركي: إلى أي مدى يمكننا أن نذهب في اعتمادنا على أميركا؟ وما الذي يمكن أن يجعل مصالحنا المشتركة تلتقي مًعا؟ هذه أمور علينا أن نعيد تقييمها٬ وليس علينا أن نتوقع من أي رئيس أميركي جديد العودة إلى الأيام الخوالي حين كانت الأمور مختلفة.
قبل أسبوعين كنت أناقش اختلال العلاقات بين أميركا ودول «مجلس التعاون الخليجي» مع وزير الإعلام الكويتي الشيخ سلمان الحمود الصباح٬ الذي اختصر الانعطاف السلبي في هذه العلاقات مع أميركا٬ بخلاصة تندرج في سياق زيارة أوباما إلى السعودية ولقائه زعماء دول الخليج فقال لي:
إذا تأملنا في مسار الأمور جيًدا وفي المسالك السياسية التي اتبعتها إدارة أوباما٬ وفيما استولدته من بروز اتجاهات ومفاهيم ترسي أسًسا لسياسة خليجية جديدة٬ لا أتردد في القول رب ضارة نافعة!
بالتأكيد رب ضارة نافعة٬ أو كما يقول الأمير تركي من أن الجانب الإيجابي في تصرفات أوباما وتصريحاته٬ هو أنها أيقظت الجميع على أن هناك تغييًرا في أميركا وعلينا أن نتعامل مع هذا التغيير٬ وعليه إذا كانت «الضارة» تتمثل بسياسات أوباما المستسلمة كلًيا لإسرائيل٬ والمتهافتة كلًيا على التفاهم مع إيران والمتعامية عن سياساتها التخريبية والداعمة للإرهاب في العالم٬ وبتسليمه العراق على طبق من فضة إلى الإيرانيين ورجلهم نوري المالكي٬ الذي سيطبق سياسات قهر مذهبي عميق ويخلق بيئة حاضنة لتنظيم القاعدة التي كانت قد هزمتها «الصحوات» عام 2008 الذي استولد «داعش»٬ وإذا كانت «الضارة» تتمثل أيًضا بتعامي أوباما الطويل عن مذابح النظام السوري واستعمال السلاح الكيماوي٬ وبتغاضيه عن سلبيات التدخل الإيراني المتفاقم في المنطقة٬ فما «النافعة»؟
النافعة أن يصبح مفهوم تاريخية زيارة أوباما للسعودية٬ مرتبًطا بالتحول العميق والجذري الذي لا بد من أن يكون لمس عناصره وأبعاده في أطول محادثات قمة أجراها منذ وصوله إلى البيت الأبيض٬ واستمرت على مدى ساعتين٬ عرض في خلالها خادم الحرمين الشريفين٬ مسلسل القضايا والمشاكل التي تهم السعودية ودول الخليج٬ التي تقتضيها ضرورات العمل لإرساء الأمن والاستقرار في المنطقة وعلى المستوى الدولي.
منذ نزوله في المطار٬ حيث استقبله أمير الرياض الأمير فيصل بن بندر ووزير الخارجية عادل الجبير٬ وكان الملك سلمان قد غادر بعد استقبال زعماء دول «مجلس التعاون الخليجي»٬ كان أوباما بالضرورة يستذكر المعنى السلبي لكلامه إلى «٬«The Atlantic من أن حلفاءه الخليجيين ليسوا فعلاً «راكًبا !قمة تاريخية لأنها تغِّير تاريًخا 4/23/2016 https://aawsat.com/print/623376 2/2 «مجلس التعاون الخليجي»٬ كان أوباما بالضرورة يستذكر المعنى السلبي لكلامه إلى «٬«The Atlantic من أن حلفاءه الخليجيين ليسوا فعلاً «راكًبا مجانًيا»٬ وأن منطقة الشرق الأوسط ليست بلا جدوى كما قال.
ولا بد من أنه أحس واستنتج بعد محادثاته الطويلة مع الملك سلمان٬ ثم مع زعماء الخليج أن إدارته أساءت فعلاً في ترجمة كل تعهداته حيال ضبط العربدة الإيرانية٬ في قمة «كامب ديفيد» التي عقدت بعد توقيع الاتفاق النووي وتغيب عنها خادم الحرمين الشريفين.
أهم ما في المفهوم التاريخي لزيارة أوباما إلى السعودية٬ أنها بدأت تاريًخا مختلًفا من طبيعة العلاقة بين البلدين٬ فمن علاقة تحالف قلَّما قامت واشنطن حيالها٬ باستجابة واجبات الحليف الوفي سواء في البحرين وسوريا والعراق واليمن ولبنان٬ وحيال التهافت على إيران٬ على الرغم من اتهامها بأنها في طليعة الدول الداعمة للإرهاب في العالم٬ إلى علاقة شريك قوي تحتاج إليه أميركا إذا أرادت مثلما تحتاج إليه السعودية!
ولا بد من أن يكون أوباما أدرك أنه يصل إلى عالم خليجي مختلف٬ بعد التطورات الحاسمة التي أطلقتها «عاصفة الحزم» وأن الحزم ليس حرًبا تدعم الشرعية اليمنية في وجه الانقلابيين الذين تحركهم إيران فحسب٬ بل هي نمط جديد من حيث التصرف ومختلف من حيث الأداء٬ يضع قواعد متينة للتوازن الذي يقوم على أساس «الشراكة» التي تفرض المساواة٬ لا «التحالف» الذي طالما استعملته واشنطن وفق مصالحها ولو تعارضت مع مصلحة الحلفاء! ربما أدرك أوباما أنه وصل أخيًرا إلى خليج مختلف فعلاً٬ يعمل على إيقاع سياسة جديدة تعيد التوازن الاستراتيجي على المستوى الإقليمي وترسي تحلفات قوية على المستوى القري والدولي٬ وأن «عاصفة الحزم» استراتيجية جديدة تتخذ القرارات سواء عسكرًيا أو سياسًيا٬ وتوقف التدخلات التخريبية في المنطقة وتقدم شريًكا من 34 دولة متحالفة قالت أخيًرا عبر «رعد الشمال»: كفى نحن هنا!