يموت سوريون في مخيم لجوء في تركيا بصاروخٍ قادم من داخل سورية. يموت سوريون في أطراف قريةٍ في الجزيرة السورية بصاروخ قادم من تركيا. يموت سوريون في أطراف العاصمة بصاروخ قادم من داخل العاصمة. يموت سوريون في مدينةٍ محاصرةٍ بجوع محيط من كل الأطراف.
العبارة المتكرّرة في كل خبر يمكن أن نقرأه هي: (يموت سوريون)، وهي التي لا يمكن لها مهما تكرّرت أن تصبح مألوفة، فالموت غير مصمم للاعتياد، وتنوع أسبابه وطرائقه لن يخفّف من فجائعيته، يتحدث السياسيون، ويحلل المحللون، يذهب المفاوضون إلى القاعات، وينسحب المفاوضون من الفنادق، ويبقى الموت السوري مستمراً.
إذاً، ما جدوى ذلك كله؟ وما جدوى كل ما قيل وكتب عبر خمس سنوات؟ وما جدوى ما أقوله الآن؟
لا شيء سوى تأكيد المؤكد، وتكرار المعروف. بالطبع، حدثت لنا أشياء جديدة في أثناء هذا المسار المظلم، وعرفنا بعض الحقائق على شكل انكشافاتٍ مؤلمة، لعل في مقدمتها أن الكذبة المسماة المجتمع الدولي هي وهم كان موجوداً في رؤوسنا فقط، وأن لا وجود له في الواقع، وإلا ما فائدة أن تجتمع أمم الأرض في منظمةٍ توحدها؟ وما معنى أن تجتمع الأمم الكبرى منها في مجلس يرفع شعار الأمن الدولي؟ هل من معنى لذلك كله، طالما أن عذابات شخص واحد لم تتوقف منذ خمس سنوات؟
كانت هدنة الأسبوع التي امتدت شهراً ونصف الشهر نافذة أمل تعلق بها سوريون كثيرون، واعتقدوا أنها ستكون مقدمةً لفتح صفحة جديدة من حياتهم. مات سوريون كثيرون في أثناء ترقبهم ذاك، واستمر كثيرون بمغامرة الهجرة، بحثاً عن نجاة، لم يخرجوا كما يفعل الناس، عادة، للبحث عن حياة أفضل، بل عن حياة فقط، والتي هي نقيض الموت فقط، بلا أي طموح آخر لأمانٍ مالي أو تعليم أفضل، أو تأمين صحي، أو شيخوخة لائقة أو فرصة عمل، هم يفرّون من الموت فقط، أو من نوع واحد من الموت، الموت تحت برميل متفجر.
حتى الهدنة، التي فتحت نافذةً واهمةً للأمل، انفرط عقدها، وأعلن رسمياً عن انتهائها. وخلال أيام، يعود مسلسل الموت للتوسع، وهو الذي لم يضق أساساً، وستكون الهدنة المزعومة مجرد فرصةٍ لتصعيد العنف، وستستحق لقبها الذي أطلقه عليها الإعلام منذ اليوم الأول، الهدنة الهشة، وها هي قد تفتتت أو تكاد، وسيتوضح أن العلاقة بين الهدنة والعنف هي كما العلاقة بين سعر صرف الليرة وسعر المواد في السوق. تنخفض قيمة الليرة فترتفع الأسعار، ترتفع قيمة الليرة قليلاً فتحافظ الأسعار على حدّها العالي، تنخفض الليرة مجدداً، فترتفع الأسعار مجدداً، وهكذا.
كذلك الهدنة على ما يبدو، فمنذ إعلانها، حافظ النظام على وتيرة عملياته في كل المناطق السورية، وها هي تنتهي ببيان أصدرته عشرة فصائل سورية معارضة، فالنظام إذاً سيصعّد وتيرة العنف المرفعة أساساً، وحين سينجح الرأسان الكبيران (روسيا والولايات المتحدة) في إقرار هدنةٍ جديدة، سيحافظ النظام على وتيرة العنف التي سيصل إليها الآن، ريثما تنتهي الهدنة، والتي أخبركم من الآن أنها ستكون هشة كذلك، ليصعد من جديد، وتستمر وسائل الإعلام بتزويدنا بصور مجازر جديدة، وشهداء جدد، ويستمر مسلسل الموت السوري، بينما كل شيء في السياسة يمر من قربه.
الجميع عدو الجميع، والقنبلة هي لغة الحوار الوحيدة الصالحة للاستخدام في سورية، وليست مفردات هذا الحوار كلمات بل أشلاء، فما الذي فعلته هذه البلاد لتُبتلى بهذا البلاء؟ ولماذا يعجز الجميع عن إيجاد فرصةٍ للحل؟ أي نوع من الفرص، وأي نوع من الحلول، فأقصى ما صرنا نطلبه اليوم أن تخلو نشرة أخبار واحدة من عبارة (قتل سوريون اليوم في) والـ (في) هذه ستكون موزعة على البحر والبر، في الشمال والجنوب والغرب والشرق.
قبل عامين، حين توقفت الأمم المتحدة عن إحصاء عدد الضحايا السوريين، بدا أننا دخلنا طوراً جديداً، قوامه الأساسي أن الموت السوري لم يعد يعني أحداً، ولم يعد مسموحاً له أن ينغص فنجان القهوة الصباحي للعالم، مسموح له فقط أن يستمر ويتمدّد. لكن، عليه أن يفعل ذلك بصمت، ومن دون إزعاج مزاج العالم.