الزمرة السياسية بلغت من العمر عتيّا خرّبت النظام، وخرّبت الإدارة، ونخرها الفساد والسطو على المال العام، باعدوا أفاضل المجتمع وقرّبوا الفاسدين من أهل قرابتهم وزبانيتهم، يعتذرون بغير العذر، ويغضّون على المختلس، حتى إذا افتضح أمره، وعمّت البلوى والشكوى، عادوا ليمنّوا علينا بأنّهم لا يحمون السارقين، وكأنّ هذه إحدى فضائلهم التي لا تُنسى، ولا يتوانى واحدهم عن الذبّ عن سفيهه، لا يخافون حساباً في الدنيا ولا عقاباً في الآخرة.
كان حجّاجُ الأمويين يعتقد أنّ الشيطان استبطن أهل العراق، ونحن نعتقد أنّ الشيطان استبطن حكامنا، (وبلغة الحجاج) خالط اللحم والعصب، والمسامع والأطراف والاعضاء والشغاف،ثم أفضى إلى المخاخ والصمائخ، ثم ارتفع وعشّش،ثم باض وفرّخ. فولّد فراغا خطيرا في رأس السلطة، وسرقات بملايين الدولارات، وانتهاكات صارخة للسيادة والقانون، وأنّى توجهت في الإدارة والأجهزة، فلن تجد إلاّ السارقين وحُماتهم،ويحضرون اجتماعات حوارية، واجتماعات عمل، ولجان برلمانية، وتراهم يشكون شكاوى المواطنين عينها، ويئنّون أنين المرضى والجائعين، ويتلاعبون بالدستور والقوانين كأنّها إنّما وُضعت لإرضاء أهوائهم وتحقيق مطامعهم، ويرمون علينا خيباتهم ألغازاً وأحاجٍ: لا تشريع ضرورة قبل قانون انتخاب جديد، ولا قانون انتخاب قبل انتخاب رئيس، وانتخاب الرئيس في علم الغيب، ولا بُدّ من التشريع،لتستقيم شؤون الحكم والعباد بالحد الأدنى، وتنتهي آخر جلسة حوارية على صراع أشبه ما يكون بصراع الديكة، ويحار المواطنون ويُصابون بالدُوار من تلاطم التصريحات والعنتريات، لا ضابط للحوار، ولانهج،ولا نظام، ولا عُرف،وكلٌ يغني على ليلاه، حتى بات حالنا معهم كحال أبو العنبس مع أهل الطائف، إذ صعد منبرا من منابرهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:أمّا بعد... فأُرتج عليه، (أي حُبس عليه الكلام)، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا:لا.
قال: فما ينفعني ما أريد أن أقول لكم؟ ثم نزل.فلما كان في الجمعة الثانية صعد المنبر.وقال، أمّا بعد، فأرتج عليه، فقال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟ قالوا نعم، قال: فما حاجتكم إلى أن أقول لكم ما علمتم؟ ثم نزل. فلما كانت الجمعة الثالثة،قال: أمّا بعد، فأرتج عليه، قال: أتدرون ما أريد أن أقول لكم؟
قالوا: بعضنا يدري ، وبعضنا لا يدري. قال: فليُخبر الذي يدري منكم الذي لا يدري. ثم نزل. هذه حال راعي الحوارات الرئيس بري،يجهد لتلميع صورة هذه السلطة المهترئة، التي لم تعد تدري ما عليها فعله، وقد ابتدع لها حوارات ثنائية وحوارات جماعية، حتى إذا ما استشعر أن الهيكل آيلٌ للسقوط على رأس الجميع،رفع سبّابته محذرا، واستخرج من جيوبه ما يلزم من مساحيق لتغطية عيوب هذه السلطة التي شاخت واكفهرّت، ولكن، ما الذي يسع الماشطة أن تفعله مع الوجه الشنيع؟
(ما دام في نظرها شنيعاً) ، وما نفع أن يتفقوا على استمرار نهب هذا الشعب واستغلاله، بعد أن أصبحوا في واد، وهو في وادٍ آخر.