في الرواية العظيمة التي كتبها المؤلف العالمي إيان فليمينغ بعنوان "الإصبع الذهبي"، تخبرنا الشخصية الشريرة في الرواية عن اكتشاف العميل جيمس بوند لنواياه الإجرامية وإيقافها مراراً وتكراراً "أن يحدث ذلك مرة واحدة فهذه صدفة، وأن يحدث مرتين فهي صدفة أيضاً، ولكن أن يحدث مرة ثالثة، فهي بمثابة معركة مع عدو". بتطبيق تلك العبارة، ماذا يمكن أن نسمي المناورتين الروسيتين خلال الأسبوع الماضي، والتي كان أحدها ضد سفينة حربية أميركية في بحر البلطيق، في حين كانت الأخرى ضد طائرة أميركية في المجال الجوي الدولي بالقرب من الحدود الروسية؟.
من خلال تلك المناورات شديدة العدوانية، يلعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالنار، خاصةً وأنه لا شك أن هذه الأمور تتم بتوجيه شخصي منه بالنظر إلى الطريقة التي تدار بها روسيا اليوم، وخاصة أيضاً مع الخطورة الشديدة التي يعنيها التحرش بالجيش الأميركي، بحسب صحيفة "فورن بوليسي" الأميركية.
بالحديث عن المناورة الأولى، فقد قامت مقاتلة روسية من طراز سوخوي 24 في 12 من نيسان الجاري بالتحليق على ارتفاع لم يتجاوز 50 قدماً فقط عن القطعة البحرية الأميركية الحربية "يو إس إس دونالد كوك" بسرعة عالية للغاية، في الوقت الذي لم تستخدم فيه السفينة الأميركية المدمرة للصواريخ الموجهة أية نيران في مواجهة الطائرة الروسية، على الرغم من أن قواعد الاشتباك تسمح لها باستخدام أسلحة دفاعية في هذه الحالة. وفي الوقت الذي كنت فيه قائداً لسفينة عسكرية مماثلة منذ عدة سنوات، يمكنني أن أؤكد على أن قائد السفينة في تلك الحالة قد استخدم أقصى درجات ضبط النفس، خاصة مع تعرضه لنية عدائية تستوجب إسقاط الطائرة. ما خفف من حدة الوضع كان عدم وجود سلاح ظاهر على متن الطائرة الروسية، كما أن غياب رادار التحكم في إطلاق النار الروسي ساهم في تخطي الأمر.
المناورة الثانية
الحادثة الثانية كانت في الـ17 من الشهر ذاته، كان العنصر الرئيسي فيها هو طائرة أميركية من طراز بوينغ RC-135 تحلق في المجال الجوي الدولي، وهنا قامت مقاتلة روسية من طراز سوخوي 27 بتنفيذ لفة برميلية على بعد 50 قدم فقط من الطائرة الأميركية التي تعد أبطأ بكثير وأقل قدرة على المناورة من المقاتلة الروسية.
كان الأمر خطيراً للغاية (اصطدمت طائرتان أميركيتان من طراز أف 14 سابقاً خلال تنفيذ مناورات مماثلة عام 2004) في حوادث تشبه ما تناوله الفيلم الأميركي القديم Top Gun الصادر عام 1986، حيث كان الطيران بتلك الطريقة يُعد محض غباء، ومازال محض غباء عندما قام به الروس منذ أسابيع.
التوترات الحالية بين واشنطن وموسكو وصلت لأعلى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة منذ عِقدين كاملين، وهو ما حدث نتيجة للغزو الروسي لأوكرانيا وقيامها بضم شبه جزيرة القرم فيما يعد انتهاكاً للقوانين الدولية، ما أدى في نهاية المطاف إلى توقيع عقوبات قاسية بحق روسيا من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا.
يضاف إلى ذلك الاختلاف القوي بين الدولتين حول السياسة المتبعة في سوريا، حيث يدعم بوتين النظام السوري بقيادة بشار الأسد، في حين تحاول الولايات المتحدة تكوين تحالف مع قوى المعارضة الأكثر اعتدالاً للإطاحة بالأسد. وفي الوقت الحالي، يشعر الكرملين بحساسية شديدة تجاه إجراءات جديدة للناتو قام الحلف خلالها بتدريبات ومناورات مكثفة بالإضافة إلى نشر قوات في المحيط الروسي كنتيجة مباشرة للأعمال العدائية الروسية في جورجيا وأوكرانيا.
وأخيراً، تشعر روسيا بقلق بالغ حيال أمن كالينينغراد، المنطقة التابعة لسيطرتها قبالة شواطئ البطليق (حيث تمت المناورتان الأخيرتان). وكانت موسكو قد هددت بنشر الصواريخ الباليستية في تلك المنطقة إذا قامت الولايات المتحدة بتحديث ترسانتها النووية في ألمانيا.
هذا التدهور الشديد في العلاقة والانحدار نحو عقلية الحرب الباردة يبدو من الواضح أنه ليس في مصلحة أحد، لذلك، يجب أن يكون السؤال هو: كيف يمكننا تجنب الأمر مع مراعاة مواجهة موسكو عندما يتطلب الأمر ذلك؟
لا تدخل في المعركة وحيداً
القاعدة الأولى في هذا الأمر هي التصرف متعدد الأطراف، وعدم تحويل الأمر إلى صراع بين دولتين، حيث ستأتي طريقة التفكير تلك بنتائج عسكية على الولايات المتحدة. يجب أن يكون رد واشنطن في سياق حلف الناتو قدر الأمكان، بما في ذلك ما يتم على الأرض وفي البحر وفي الجو في تلك المنطقة. ما ترغب فيه روسيا هو تحويل الأمر إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة ومحاولة إحداث انقسامات داخل الحلف، وهو ما يجب أن تقوم واشنطن بتجنبه وأن تواصل الانتشار تحت اسم حلف الناتو، بما في ذلك الالتزام بمبادرة الاطمئنان الأوروبية.
اختيار المعارك
الأمر الثاني هو أن الولايات المتحدة ترغب في مواجهة روسيا، إلا أن السؤال يتعلق هنا بأين يجب أن تكون هذه المواجهة. بشكل خاص، يجب أن تواصل الولايات المتحدة ضغطها على موسكو من خلال العقوبات إلى أن تلتزم باتفاقية مينسك لوقف إطلاق النار بالكامل، وأن تواصل الولايات المتحدة ضغطها لإسقاط نظام الأسد، وكذلك أن تقوم بتوجيه اللوم لروسيا على انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان. هناك الكثير من الاختلافات الأخرى بين الولايات المتحدة مع روسيا ولكن لا يجب الدخول في مواجهة بشأنها في الوقت الحالي، مثل عسكرة منطقة القطب الشمالي، وعدم التزام روسيا بمعاهدة الحد من التسلح، ونشرها للدفاعات الصاروخية البالستية، وغيرها.
التعاون قدر الإمكان
الخطوة الثالثة التي يجب أن تتخذها الولايات المتحدة هي اتباع منهج يقوم على مكافحة الإرهاب بشكل متعاون ومكافحة المخدرات والقرصنة كذلك، وغيرها من المشكلات الدولية التي تتفق فيها واشنطن مع موسكو بصورة كبيرة. من الممكن أيضاً بالنسبة للبلدين العمل في منطقة البلقان بشكل مشترك لتهدئة العلاقات بين صربيا والجمهورية الانفصالية في كوسوفو ومشكلة الحدود المثارة حتى الآن بشأن البوسنة والهرسك. يمكن أيضاً تطوير التعاون بين البلدين في المجال البيئي، ومن خلال زيادة التعاون غير الحكومي على مستوى التبادل الطلابي، وكذلك البحث عن أرضية مشتركة للعمل في سوريا (على الرغم من أن قضية الأسد ستبقى حجر عثرة دائماً). لدى كلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا أيضاً اهتمام مشترك فيما يتعلق بحل التحديات التي تواجهها أفغانستان، وكذلك مشكلة التسلح بين الهند وباكستان.
مزيد من الحوار، قليل من الهجوم
وأخيراً، على المستوى التكتيكي، سيكون من الذكاء قيام الولايات المتحدة بزيادة محادثاتها مع روسيا بشأن البروتوكولات الحالية المتعلقة بالتفاعل العسكري للقوات، وتعد الاتفاقية الأميركية السوفيتية التي تم التفاوض بشأنها عام 1972 والتي تتناول الوقاية من الحوادث في البحار بمثابة أساس جيد للتنسيق بين عمل الطائرات والسفن، حيث وضعت توجيهات محددة للغاية خلال فترة الحرب الباردة. إن تم ذلك، فسيعني عقد مؤتمر يضم كبار القادة العسكريين الروس والأميركيين لمراجعة وإعادة إحياء تلك الاتفاقية، وهو ما سيعد خطوة إيجابية للغاية. دائماً ما يسألني الناس إذا ما كان من الممكن أن تتكرر الحرب الباردة مرة أخرى، إجابتي هي: ليس الآن. تتضاءل فرص حدوث حرب باردة في الوقت الحالي بالنظر إلى أعداد القوات والسفن والطائرات، وكذلك درجة الاستعداد العسكري لتنفيذ عمليات واسعة النطاق عالمياً، واحتمال شن هجمات نووية، ونحن لم نصل إلى تلك المرحلة بعد.
على الرغم من ذلك، إذا لم تتوقف الأنشطة الاستفزازية، كتلك التي نفذها الطيران الروسي الأسبوع الماضي، فقد نصل عاجلاً أم آجلاً إلى إسقاط طائرات أو مواجهات أخطر بكثير. ومن جانبها، يجب أن تكون الولايات المتحدة دقيقة للغاية فيما يتعلق بانتشارها العسكري حول محيط روسيا والتأكيد على عدم تفكيرها في أي عمل هجومي، وألا تتخذ أية خطوات سوى من خلال اجتماعات حلف الناتو مع روسيا.
لا يوجد أي داع للاتجاه نحو حرب باردة جديدة، ولكن تجنب ذلك الأمر يتطلب ضبط النفس، والحس السليم، والدبلوماسية، وخاصة في الأجزاء المشتركة بين موسكو وواشنطن. وتماماً كما تحدث الشرير في رواية الإصبع الذهبي، يرى كلا الطرفين الكثير من الأنشطة التي يقوم بها الطرف الآخر لاستعدائه، والتي تخلق مناخاً خطيراً من سوء تقديرٍ محتمل للأمور. فوق كل ذلك، تحتاج الدولتان إلى التعامل بينهما بوضوحٍ شديد، وتهدئة نبرة الخطاب، ووقف تلك المناورات الاستعراضية قبل أن توجّه النيران إلى الطائرات.
(هافنغتون بوست – فورن بوليسي)