انطلاقا من قوله تعالى :{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر :29) .
للروح مكان وليست مجردة من الزمان والمكان ،ومكان الروح هو البدن الدنيوي أو القالب المثالي البرزخي. والبدن هو مركب الروح وهذا الأمر واضح ومحسوس ولا يحتاج إلى البرهان وهذه الروح المحدودة لما كانت محدودة ذاتا فإن صفاتها كالعلم محدودة أيضا لأن حدود العوارض هي حدود المعروض ذاتها ولا يمكن أن تزيد عليها .
فروح الكائن الحي لا تعلم كل شئ وليست مطلعة على جميع الأشياء ولا جميع الأمكنة بل إنما تستطيع بواسطة تحصيل العلم أو بواسطة الوحي الإلهي أن تكسب العلم كما قال الله تعالى لرسوله : {ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء :85) .
وقال تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}(الإسراء:36).
وقال تعالى :{فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علما}(طه :14). ونحوها من الآيات الكثيرة .
وهذا عندما تكون تلك الروح في الدنيا ،أما عندما تخرج من البدن بالوفاة وتدخل القالب المثالي البرزخي فإن حقيقتها تبقى كما هي ولا تتغير .
فالصالحون والأولياء يذهبون من هذا المكان إلى عالم أرفع وأسمى من هذا العالم وإلى قالب ألطف من الجسم الدنيوي ،يقول الحق تعالى :{فأما إن كان [أي المحتضر]من المقربين(88)فروح وريحان وجنات نعيم}(الواقعة :88_89).
وقال كذلك :{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون(169)فرحين بما آتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170)يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}(آل عمران :169_171).
في هذه الآيات نقاط وأمور تحرر الإنسان من الأوهام والخرافات لذا نلفت نظر القراء الكرام إليها : عندما يقول الحق عز وجل :{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء}(آل عمران :169).
فمعناه أنهم أحياء أي الشهداء واعين تماما ولكن في عالم آخر ،لا يسمعون الأحياء ، وقوله :{...عند ربهم يرزقون(169)} يدل على أنهم في الواقع نالوا حياة أفضل في مكان أسمى وأرفع .
فالجملة الأخيرة تدل على أنه رغم قوله تعالى :{كل من عليها فان(26)}(الرحمن : 26)،وقوله سبحانه :{إنك ميت وإنهم ميتون}(الزمر :30).
التي أثبت الله تعالى أن النبي يموت مثل سائر البشر ،والكل يعلم بأنه مات ودفن ،إلا أن المقربين من الله ينالون عنده _بعد رحيلهم من هذه الدنيا الفانية _حياة ونعيما لا يعلم كيفيتها سوى الله ،في حين أن الكفار والفجار ينالون الألم والعذاب بعد موتهم . إذا عرفنا ذلك فيجب أن نعلم أين هو المكان الذي يشير إليه قوله :{..عند ربهم يرزقون (69) } ؟ إن قوله :{...عند ربهم} يفيد أنهم عند الله وليس عند الخلق ولا عند القبر ،فأين يكونون عندما يكونون عند الله ؟
تبين الآية الكريمة :{لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون}(الأنعام :127)، والآية الكريمة :{والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(25)}(يونس :25)، إن"عند الله" هو"دار السلام" فهو غير"عند الخلق " وغير"عند القبر" أو الدنيا ،كما قال سبحانه :{ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}(96). فلا شك أن الرزق الذي يرزقونه ليس الرزق والطعام الدنيوي. وفي الجزء الآخر من الآية المذكورة يقول الله تعالى :{فرحين بما آتهم الله من فضله}(النحل :96) ، فما يؤتيه الله لهم من فضله ليس هو الدنيا لأنه كانت لديهم الدنيا ثم أخذت منهم ليعطوا بدلا منها مكانا أوسع وأفضل .
أما الذين لا علم لهم بالقرآن فيتصورون أن الشهداء لهم ارتباط بهذه الدنيا . في حين أن جملة :{...ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ){آل عمران : 170) تدل على أن الشهداء يذهبون إلى عالم يصبحون فيه بعيدين عمن خلفوه وراءهم من الأحياء ،آملين أن يلحق بهم أولئك الذين من خلفهم .
فلو كان الشهداء لا يزالون في هذه الدنيا وكان لهم طريق إلى أقربائهم ومعارفهم لما كانت تلك الجملة صحيحة . إذا فالشهداء منفصلون عن أهل الدنيا .
أضف إلى ذلك أن الله تعالى بين في آخر تلك الآيات أن جميع المؤمنين سينالون ذلك النعيم والثواب{...وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} (آل عمران : 171).