ليس صحيح أن الحسم العسكري لم يكن ممكنا في السابق كما أنه ليس من الصحيح اليوم أن الحل السياسي مستعص على الوجود.
الصحيح أن الدول النافذة في المجتمع الدولي، وفي مقدمها روسيا والولايات المتحدة، رفضت الحسم العسكري وعملت كل ما تستطيع لمنعه، وهي تتلكأ اليوم في الحل السياسي ولا تقوم بأي جهد جدي للدفع به.
وليس من الصحيح كذلك أن السوريين تركوا لوحدهم حتى يقرروا مصيرهم ويحسموا صراعهم حربا أو سلما.
فقد بدأ التدخل في الشأن السوري منذ اليوم الأول لانطلاق الصراع الداخلي، ودشن بموازاته حروبا إقليمية ودولية ما لبثت حتى تحولت إلى البؤر الرئيسية للحرب.
ولا يزال التدخل الأجنبي هو العامل الرئيس اليوم في استمرار جميع الحروب الدائرة على الأرض السورية، وفي تعيين أهدافها ورهاناتها، وبالتالي تحديد المخرج منها.
لا ينبغي أن ننكر أن لجميع الأطراف المنخرطة في الصراع السوري مصالح خاصة بها تجعلها تقف مع التغيير أو ضده. وأن التوصل إلى اتفاق شامل في ما بينها على تقاسم الكعكة السورية من مصالح ومواقع استراتيجية وموارد ومناطق النفوذ لم يزل صعب المنال.
لكن هذا لا يفسر لوحده استمرار الحرب ولا بقاء النظام على الاطلاق. فمن جهة لا تملك الاطراف المتصارعة الدرجة نفسها من الاستقلال في سعيها إلى إرضاء رغباتها ومطامعها، وليس لدى أغلبها القدرة على التحكم بمصير الحرب حتى لو كان بإمكانه أن يقاوم هنا وهناك ويعرقل لفترة من الوقت الحل السياسي.
ومن جهة ثانية يدرك معظم الفاعلين أن النظام تحطم نهائيا ولم يعد بالإمكان إعادة إحيائه، وأنه لا مخرج لهم سوى التفاهم على موقعهم في النظام القادم وبالتالي السعي نحو مشاركة جدية في التفاوض عليه. ودور الوساطة الدولية هو بالضبط أن تعزز فرص دخول الاطراف في مثل هذه المفاوضات، بالسر أو بالعلن.
ما عمل على تأجيل أمد الحل ولا يزال، عسكريا كان أم سياسيا، ليس تعدد أبعاد النزاع، ولا عجز الدول عن لي ذراع الأسد ودفعه إلى الرحيل بل حتى جموح طهران الاستراتيجي والروح الانتقامية التي طبعت سياسة روسيا بوتين.
كانت أي واحدة من الجرائم والانتهاكات، من الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية إلى قذف البراميل المتفجرة على السكان الآمنين، وفرض حصار التجويع على المدن والقرى من دون تمييز، وقتل الآلاف تحت التعذيب في سجون العار، وعمليات الترويع والتهجير القسري والجماعي للسكان، مما لم تكف تقارير المنظمات الدولية الانسانية والقانونية، منذ سنوات، عن وصفه بجرائم حرب موصوفة وجرائم ضد الانسانية، أقول أي من هذه الجرائم الشنيعة كانت كافية لوحدها لتثير عاصفة مدوية من الاحتجاج الدولي والإطاحة بنظام أصبح صنوا للرعب والارهاب. لكن بدل ذلك اختارت الدول الغربية، وليست روسيا فحسب، مكافأته : أولا برفض نزع الشرعية عنه والحفاظ على موقعه في المنظومة الدولية خلال السنوات الماضية، وثانيا بالتمسك بوجوده كشريك في أي حكومة أو هيئة انتقالية، وصرف النظر عن أي عدالة أو محاسبة أو مساءلة على ما ارتكبه من فظائع بحق السوريين والمنطقة بأكملها.
لا يوجد هناك ما يمكن أن يبرر هذا الضلوع في المحافظة على نظام الأسد، لا تعقيد الوضع كما كان يقال، ولا صعوبة الحسم العسكري، ولا الخوف من التكاليف والخسائر، ولا الحفاظ على مؤسسات الدولة ولا حماية الأقليات. تكمن العقبة الخفية الحقيقية أمام تقدم مفاوضات التسوية السياسية منذ مبادرة الجامعة العربية إلى اليوم في خوف الدول الكبرى، الروس والأمريكيين والاوروبيين والصينين وغيرهم، كل لأسبابه ورهاناته الخاصة، من التسليم بنقل السلطة في سورية للشعب، والقبول بالاحتكام بالفعل لصندوق الاقتراع، أي بحكم الأغلبية السياسية والعددية في الوقت نفسه. الخوف من الاسلام كمبرر لإعادة تأهيل الديكتاتورية لا ينبغي أن ننسى أن الولايات المتحدة والغرب عموما هما الذان دعما خلال العقود الطويلة الماضية الديكتاتورية في افريقيا وامريكا اللاتينية والشرق الأوسط وآسيا. وكان الاعتقاد أن ذلك حصل لمقاومة الشيوعية.
والحال أن ذلك حصل لأن الشيوعية كانت تمثل الوعاء الايديولوجي والفكري الذي انصبت فيه إرادة الاحتجاج العميقة ضد النظام المحلي، ومن ورائه العالمي، وانتزعت قطاعا كبيرا من الجمهرة الشعبية. ولم يكن الهدف من محاربة الشيوعية رفض العقيدة والفلسفة نفسيهما، وإنما استلام الشعوب زمام أمورها بيدها وما يستبطنه ذلك من تغيير موازين القوى الجيوسياسية العالمية. وهذا ما يحصل اليوم بالضبط إزاء الإسلام الذي حل، على مختلف تنوعاته، محل الشيوعية في تجسيد عقيدة المقاومة والمعارضة والاحتجاج الشعبية والشعبوية، والذي تتعامل معه الدول الكبرى المهيمنة تماما كما تعاملت مع الشيوعية، من أجل الحفاظ على النظام العالمي لتوزيع القوة والثروة نفسه ورفض التنازل والحوار وتعديل السياسات الدولية. يشكل العالم العربي جزءا رئيسيا من العالم المتأزم الذي خسر رهان الاندماج في نظام العولمة الاقتصادي والتقني والسياسي معا، وهو مهيء أكثر من أي منطقة أخرى لإطلاق موجات احتجاج وثورات لن تتوقف قبل فترة طويلة من المخاض، وقبل أن تعيد الدول المتقدمة النظر في سياساتها الكبرى وخياراتها الاقليمية التي دفعت الكثير من المجتمعات إلى الاخفاق في مسيرتها التحررية، وحرمتها من التفاهم والاتحاد لبناء بنيتها الاقليمية الفاعلة، وفرضت عليها ديكتاتوريات وحشية لضبطها وتحييدها، وأغلقت أمامها سبل التقدم التقني والعلمي والاقتصادي.
ما فعله الأسد في الشعب السوري لم يكن بأمر من الدول الكبرى وإنما لم يكن ضد إرادتها ولا بعيدا عن مصالحها، بل جاء تلبية مسبقة لتوقعاتها في إجهاض موجات التحرر العربية أو ضبطها وإعادة السيطرة عليها. وفي انسجام مع خطة حرمان الشعوب من انتزاع حقها الكامل في تقرير مصيرها، وإجبارها بالمقابل على القبول بسيادة منقوصة تحت إشراف الدول.
من هنا، لم يأت وقوف هذه الدول متفرجة أمام الجرائم الكبرى التي ارتكبها الاسد وحلفائه من باب التمسك بالأسد أو تقربا من حلفائه في طهران وغيرها، ولا من باب العجز عن التدخل لحسم النزاع، ولا بسبب تكاليفه، أو مخاطر الانزلاق وإنما من باب الخوف من بديله الشعبي أو الشعبوي، وفي سبيل كسب مزيد من الوقت لتهيئة الظروف المناسبة لايجاد نخبة حاكمة مرتبطة بالنظام الدولي وخاضعة لمتطلباته، والتفاهم على نظام سياسي قادر على القيام بالوظائف نفسها التي دعمت الدول لأجلها نظام الأسد المنهار لما يقارب من نصف قرن. وما تهدف إليه مفاوضات جنيف الانفجارية وصيغة الحكومة الموحدة الانتقالية في ظل الأسد هو وضع السوريين أمام تناقضاتهم ودفعهم إلى تعرية أنفسهم وتعميق الشروخ القائمة في ما بينهم في سبيل استنزافهم جميعا ودفعهم إلى القبول بنظام هجين جديد يفتقر لأي إرادة جماعية فعلية وعاجز عن توليد اي قيادة وطنية فاعلة وذات صدقية، وعن بلورة أي برنامج عمل طويل المدى يعيد للسوريين حرياتهم وللدولة السورية سيادتها واستقلالها. في هذا السياق ينبغي فهم صيغة إكراه القتيل على تقبيل يد القاتل، وتجاهل المعاناة وصرف النظر عن مبدأ القانون والعدالة.
وفيه أيضا ينبغي فهم الطريقة التي أثيرت فيها منذ البداية مسألة الأقليات وحماية الأقليات التي لم يكن تهديدها مطروحا أصلا في أي شعار من شعارات الثورة الشعبية ولا كان هناك وارد لأي تأزم في العلاقات بين الجماعات المذهبية أو القومية في ما وراء مسألة تغيير نظام السلطة السياسية. وبالمثل، ليس الهدف من تشجيع مسار انتقالي يجمع بين التناقضات ويعمق التوترات ويعطل أي فرصة لبناء دولة وحكومة وسلطة تعكس بالفعل إرادة الناس وتمثلهم وترد على تطلعاتهم، استهداف المسلمين السنة كسنة، كما يعتقد البعض، ولكن وضع الجماعات الدينية في مواجهة بعضها، وكسر التوازنات الاجتماعية والديمغرافية والدينية الداخلية، وفي ما وراء ذلك القضاء على فكرة الوطنية السورية نفسها التي لا يمكن أن تستقيم بإخراج أو اقصاء أي جماعة منها، خاصة إذا كانت تمثل أكثرية عددية، ولا أمل لهذه الوطنية في العودة إلى الحياة إذا تحقق تطييف السنة وإكراههم على العودة إلى منطق العصبية المذهبية.
وبعكس ما يشاع، ليس الهدف من هذه السياسات التقسيمية حماية حقوق الجماعات وضمان مساواتها كما يعتقد البعض الآخر، ودعاة الحلول الفدرالية المطروحة من الخارج، وإنما بالعكس، تحويل السوريين من أمة، أو من مشروع أمة تقوم على مباديء وغايات إنسانية كونية، هي أساس الاندماج والتفاعل مع التاريخ الراهن والاندراج في مدنية العصر، إلى موزاييك من جماعات وأقليات ومذاهب وقوميات، مهووسة بالدفاع عن هوياتها المغلقة، وخصوصياتها، ومعبأة جميعا ودائما للتنازع في ما بينها على تقاسم موارد طبيعية تتضاءل كل يوم بشكل اكبر، جماعات لا يربطها رابط سياسي أو قانوني أو أخلاقي، ولا يمكن أن تعيش وتتعايش من دون وصاية وحمايات خارجية وتدخلات وتفاهمات دولية.
وهذا هو الهدف أيضا من تركيز العداء على أكثرية سنية مسالمة، وتصويرها كطائفة مهددة للأقليات لمجرد كونها أكثرية عددية، واقتناص أخطاء بعض متطرفيها، وربما تجنيدهم في منظمات إرهابية تستهدفها قبل غيرها، في سبيل تغذية الخوف منها، وتعزيز الانتماءات المحلية القومية والمذهبية، وتعبئة الجميع ضد الجميع في صراعات داخلية لا تنتهي ولا يمكن حلها، من أجل إقناع السوريين باستحالة التعايش والعيش المشترك وقطع الطريق على إعادة بناء سورية كدولة مواطنة تجاري الدول السياسية الحقيقية في المباديء التي تقوم عليها والغايات التي توجه أبنائها والتطلعات الانسانية التي تحرك مواطنيها، وإكراهها على أن تكون دولة محاسيب وموالي يعملون في خدمة أمراء الحرب الصغار وزعامات الطوائف الثابتين والمؤبدين والمتناحرين بشكل دائم، وعلى استعداد في الوقت نفسه لتجنيد أنفسهم كفرق مرتزقة في خدمة مشاريع الدول التي تحميهم وتوظف ولاءهم، كما تفعل طهران مع الموالي العراقيين واللبنانيين والباكستانيين وغيرهم.
والنتيجة تحطيم سورية نفسها كدولة ومجتمع وشعب ودفنها تحت أنقاض نزاعات الهويات المتناحرة والفقيرة معا، وتحييدها، لحرمانها من لعب أي دور مؤثر في محيطها، بعد أن حرمت الديكتاتورية خلال أكثر من نصف قرن مضى شعبها من التأثير، وحكمت عليه بالبقاء بعيدا عن دائرة التقدم والنمو والابداع والتأثير. هذه هي للأسف الغاية من التسعير المتزايد اليوم للخلافات الدينية والقومية والمذهبية في سورية والمنطقة عموما، وتحويلها إلى حدود ثابتة ومتضاربة أو متنافية، أعني دفن مشروع الدولة الأمة الواعدة والرائدة معا، الذي يقرب العرب من تاريخ الانسانية الراهنة، ويحررهم من مخاوفهم ومعوقاتهم، وليس، كما يزعم أمراء الطوائف والحروب الصغيرة، الدفاع عن هذه القومية وحماية تلك الطائفة أو الانتقام لهذه أو تلك.
العربي الجديد
د. برهان غليون