640 ألف شخص من أصل 4 ملايين ناشطين اقتصاديا هم من العاطلين عن العمل، أي أن نسبة البطالة في تونس بلغت 15.4 بالمئة في بداية العام الجاري حسب المركز الوطني للإحصاء بتونس. وتعتبر هذه المعضلة جوهر المشكل التونسي منذ أن قامت الاحتجاجات ضد نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي أواخر عام 2010 وبداية عام 2011. النقاش في هذا السياق يكمن في أن كل الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد تتعهد مرارا وتكرارا أنها سوف تعمل على حل مشكل البطالة في تونس، لكن لغة الأرقام تناقض هذا الخطاب الذي انطبع بالكثير من السياسة. فقد ارتفعت نسبة البطالة في البلاد من 12 بالمئة سنة 2010 إلى أكثر من 15 بالمئة بداية 2016.

من ناحية أخرى، لم يمر تصريح رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد مرور الكرام في وسائل الإعلام التونسية. فقد أكد شوقي الطبيب رئيس الهيئة أن “مؤشرات الفساد قد زادت أضعافا في تونس بعد 5 سنوات من الثورة”. وتشير الأرقام التي نشرتها الجمعية التونسية لمكافحة الفساد أن 80 بالمئة من الموظفين التونسيين لا يباشرون عملهم بشكل يومي بالحضور في الإدارات، بل إن تلك النسبة تمثل الموظفين المسجلين لدى الدولة أنهم يعملون وفي الحقيقة هم يباشرون مهام أخرى خاصة ولا يداومون في الإدارات.

البنك الدولي لم يترك مجالا بدوره للسكوت أمام حالة التراجع العارمة التي تعيشها تونس، فقد خفض البنك مؤشر النمو الاقتصادي التونسي إلى 2 بالمئة بعد أن توقعت المؤسسة المالية الدولية أن تكون نسبة النمو العام في تونس بداية 2016 أكثر من 3 بالمئة.

هذه الأرقام ربما تعني قيما تحليلية في ذاتها بالنسبة لقراء المادة الاقتصادية وأصحاب المصالح والاستثمارات، لكنها تحمل في العمق التفسير المنطقي وشبه الوحيد لما يحدث في البلاد من تصاعد للاحتجاجات والإضرابات في كل الجهات تقريبا (خاصة الجهات الداخلية والواقعة على أطراف العملية التنموية)، وعلى مدى مدة زمنية طويلة.

نبدأ من الأخيرة

 

احتجاجات المواطنين في جزيرة قرقنة جنوب شرق تونس آخر حلقات سلسلة الاحتجاجات الشعبية التونسية من أجل التنمية والحق في التشغيل. فقد أخذت الأحداث في التسارع والتطور بالجزيرة حتى بلغ الأمر حدّ الصدام المباشر بين المحتجين والعناصر الأمنية ما أدّى إلى إلقاء سيارة أمنية في البحر عند دخول التعزيزات إلى الجزيرة انطلاقا من ميناء مدينة صفاقس التجارية المحاذية.

ويخيم التوتر على المدينة منذ حوالي أسبوع إثر اعتقال عدد من المعتصمين المطالبين بالانتداب في شركة بيتروفاك النفطية متعددة الجنسيات، وقد قالت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان إن الأمن “استخدم القوة بشكل مفرط تجاه المحتجين وهاجمهم في الطريق العام وداخل المناطق السكنية بمنطقة مليتة بعد أن أخلى المحتجون محيط الشركة، كما استخدم القنابل المسيلة للدموع نحو المواطنين والمساكن، مما أدى إلى إصابات بعضها خطير وحالات اختناق، فضلا عن حالات تعذيب”.

ليست هذه التحركات بمعزل عن الحراك العارم الذي اجتاح كامل البلاد مطلع هذا العام خاصة في المناطق الغربية للبلاد والتي تعتبر في التاريخ السياسي التونسي مصدر الاحتجاجات الكبيرة، ومنها خرجت التحركات التي أجبرت بن علي على مغادرة البلاد. إذ تعيش مدينتا القصرين وسيدي بوزيد هذه الأيام على وقع احتجاجات الأشهر الماضية عندما اندلعت ضد السلطات المحلية التي لم تقدم مؤشرات إيجابية في اتجاه القضاء على البطالة. ولم تتوقف تلك التحركات فقط عند جهات الوسط الغربي الجبلية، بل اجتاحت المظاهرات كل المدن التونسية الأمر الذي دفع إلى إعلان حظر التجول في البلاد لمدة طويلة نسبيا، فقد كانت بشكل جدي بوادر لـ”ثورة” جديدة في البلاد.

تتطابق حالة الشارع التونسي في الفترة الأخيرة مع الأرقام والإحصاءات المنشورة من الهيئات الوطنية والمجتمع المدني التونسي، وكذلك من البنك الدولي وباقي المؤسسات الاقتصادية العالمية. ويعدّ هذا التطابق في ما يخص مؤشرات التراجع المالية والاقتصادية العامة مدخلا لطرح العديد من التساؤلات حول المشهد السياسي ودور السياسيين في إيجاد الحلول المناسبة لهذه الوضعية.

 

السياسيون في عالم آخر

 

الأحزاب الرئيسية في الائتلاف الحاكم تعاني أزمات داخلية من شأنها إضعاف أدائها في إدارة شؤون البلاد. فبالرغم من صعوبة الوضع الشعبي العام، فإن الائتلاف الحاكم منشغل بحل صراعات حزبية ربما تصدر إلى قصر الحكومة بالقصبة.

نداء تونس، الحزب الذي أراده التونسيون قوة التوازن مع حركة النهضة، لا يزال يعيش على وقع الانشقاق الذي حدث في الأشهر الماضية والذي أدى إلى تكوين القيادي السابق محسن مرزوق لحزب جديد سماه مشروع تونس، في حين بقيت عناصر أخرى متمسكة بخط نداء تونس الحالي الذي آثر التحالف مع حزب حركة النهضة الإسلامي، مخيرا بذلك الانقلاب على أغلب نقاط برنامجه الانتخابي والتي قامت أساسا على عزل حركة النهضة. ويروج في وسائل الإعلام المحلية نقلا عن عناصر قيادية في نداء تونس، أن السبب الحقيقي وراء الانشقاق كان الصراع على النفوذ والزعامة داخل الحزب بين حافظ قائد السبسي نجل الرئيس قائد السبسي ومحسن مرزوق. وقد أدت هذه الصراعات داخل الحزب إلى انشغال حكومي ورئاسي أجل بعض الملفات لصالح حل تلك الخلافات التي أدت إلى توتير الأجواء أكثر.

من ناحية أخرى، فإن حركة النهضة الإسلامية التي عرفت تاريخيا بانضباطها الداخلي، فإنها انخرطت بدورها في صيحة الصراعات الداخلية للأحزاب، خارقة بذلك ما أًصبح يتداوله الإعلام عن انضباط قواعدها للقيادات. فقد أًصبح الحديث عن الصقور والحمائم داخل الحركة أمرا واقعا. فخيارات الصقور التي تتسم بالأيديولوجيا المشطة والتمسك بعدم فصل الدعوي عن السياسي (أي عدم فصل الدين عن عقيدة الحزب)، تتعارض مع خيارات الحمائم الذين يقودون حملات إعلامية ودولية للتأكيد على أن الحركة أًصبحت مدنية وتؤمن بالعمل السياسي في إطار دولة مدنية. وقد ظهر التصادم بين الشقين في العديد من المناسبات وفي المنابر الإعلامية، خاصة بعد تداول وسائل إعلام في تونس عن إمكانية تورط بعض القيادات النهضوية في القضية المسماة إعلاميا بـ”أوراق بنما”.

الاتحاد الوطني الحر، حزب ظهر بعد أحداث 2011، ويرأسه رجل الأعمال التونسي سليم الرياحي، وهو الآن من أحزاب الائتلاف الحاكم في تونس. ولم يتمكن هذا الحزب من الخروج عن معضلة الولاء لرئيسه نظرا لمسكه زمام الحزب عبر النفوذ المالي الكبير، الأمر الذي سبب تجمدا في نشاطات الحزب على المستوى الميداني توازيا مع ضعف أدائه الوزاري من خلال وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية ووزارة الشباب والرياضة ووزارة البيئة والتنمية المستديمة. والملاحظ في الآونة الأخيرة أن الإشكالات التي يشهدها الحزب داخليا أدت إلى موجة استقالات طالت أعضاء كتلة الحزب في البرلمان.

وتؤكد آراء مراقبين أن الأحزاب الحاكمة تعيش في حالة انفصال كبير عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي تشهده البلاد. فالطبقة السياسية في تونس تعمل على ضبط نظامها في ما بينها، وتثبيت نفسها في العجلة السياسية للبلاد على حساب ضبط البرامج التنموية المتعلقة بالشأن العام. وقد ظل السلوك السياسي للأحزاب مرتبطا بالحسابات في ما بينها دون أن تخرج قوة سياسية قادرة بالفعل على ضبط كل الإيقاعات والتحركات ارتباطا بخدمة الصالح العام. والدليل حسب متابعين أنه لم تتمكن الأحزاب التي تنتمي إلى العائلات الفكرية ذاتها من تكوين جبهات أو تحالفات، خاصة أحزاب العائلة الديمقراطية الاجتماعية التي تعد من أكثر الأحزاب مرونة وتكيفا مع الواقع.

 

نفق طويل

 

بالرغم من تصريح الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي عقب لقائه برئيس الجمهورية السبت الماضي الذي يوحي بأن اتحاد الشغل لن يزيد الأمور تعقيدا، إلا أن النقابات في تونس لا تخضع إلى التفاهمات السياسية بهذه الطريقة لأن القوة الوحيدة تقريبا المرتبطة بالواقع التونسي والمتجذرة فيه هي النقابات، وذلك منذ عشرينات القرن الماضي. ومن المرتقب أن تقوم نقابات العمال في القطاع الطاقي والمنجمي ووحدات النقل الكبرى في البلاد بالبعض من التحركات في اتجاه تحسين الأوضاع. ومن ناحية أخرى، بدأت الدعوات في القيام باعتصام يدعو الحكومة إلى الرحيل وتعيين حكومة أخرى تكون أشبه بالتكنوقراط (كفاءات وطنية) لتكون مشرفة على البعض من الملفات الحساسة مثل ملف التشغيل.

وقد صرح هشام حسني الناطق الرسمي باسم أحزاب اللقاء الوطني إن “تونس تسير في اتجاه اعتصام رحيل جديد في حال عدم اتخاذ حلول استباقية للإشكاليات الاقتصادية و الاجتماعية”، ودعا حسني السبت في تصريح لإذاعة محلية إلى “تشكيل حكومة وطنية بامتياز” تضم تركيبتها ممثلين عن القوى الفاعلة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

 

صحيفة العرب