برعاية العلامة السيد علي فضل الله وفي اجواء الذكرى السنوية لإطلاق وثيقة السلم الاهلي اقام ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار حفل تكريم لمجموعة من كبار العاملين في مجال الحوار والتقريب في لبنان، تقديراً لجهودهم العلمية والثقافية وإسهاماتهم في توطيد الحوار وقيم العيش المشترك وذلك في قرية الساحة التراثية بحضور النائب باسم الشاب ممثلا للرئيس تمام سلام والرئيس نبيه بري معاً، المطران سمير مظلوم ممثلا للبطريرك الراعي، رئيس مؤسسة العرفان التوحيدية الشيخ علي زين الدين ، وفد كنسي وبرلماني من الدنمارك برئاسة رئيس مجلس كنائس الدنمارك اندريس كارد وعضوين من البرلمان الدنماركي عن الحزب الليبرالي والحزب الاشتراكي الديموقراطي، وشخصيات سياسية ودينية وثقافية وعسكرية ودبلوماسية وإعلامية وممثلي هيئات المجتمع المدني والعاملين في مجال الحوار.
والمكرمون هم: الأمير حارث شهاب، الاستاذ محمد السماك، الدكتور حسين يتيم، الدكتور القس رياض جرجور ،المحامي ملحم خلف، القاضي عباس الحلبي بدأ الحفل بالنشيد الوطني اللبناني وبعده كانت كلمة لرئيس الملتقى العلامة السيد علي فضل الله استهلها بالقول: إنّنا حين نأتي اليوم لنكرّم شخصيّات قدمت الكثير للحوار، وأعطته من نفسها في مواجهة التيار الجارف لحالات القطيعة والانقسام.. فإنّما نكرم قيمة الحوار بأبعاده الفكريّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، ونعيد التأكيد عليه كعنوان ومسار، ولا سيّما في هذه المرحلة العصيبة من حياتنا، حيث يزداد منسوب التعصّب والإلغاء والتكفير والرفض للآخر، تحت عناوين متعدّدة، وبأشكال مختلفة... إننا هنا نعيد التأكيد على هذه القيمة الكبيرة لكلمة الحوار، بعد أن استهلكناها في نوادينا السياسية والاجتماعية، حتى لم يعد لها أي معنى، بحيث بتنا نمر عليها مرور الكرام.. وبعدما جوفناها من مضمونها عندما حولناها إلى ديكور أو أداة من أدوات السياسة.. نستدعيها حين نحتاج إليها، ليكون حالها كحال آلهة التمر.. وأكد سماحته: نعم، تحوَّل الحوار إلى خطابات؛ إلى صورة يجتمع فيها رجال دين مسلمون ومسيحيون، أو سنة وشيعة ودروز.. أو إلى مؤتمرات لإلقاء الخطابات، فيما تبقى القلوب كما هي، ولا تتبدل العقول ولا تتغير... ليس هو هذا الحوار الَّذي نلتقي عليه، والذي هو موضع التكريم، وليس هو الحوار الّذي يقي من الفتن أو يبني الأوطان...
فهذا الحوار يكون كالسراب، وسرعان ما ينكشف زيفه وخداعه عند أول تجربة.. وتحدث عن حالة الحوار الراهن قائلا: لم ينتج الحوار الإسلامي ــ المسيحي، والحوار الإسلامي ــ الإسلاميّ، ما كنا نأمله ونتوخاه، ولم ينجح الحوار على المستوى الوطني.. لا لأن الحوار لا ينجح ولا ينتج ولا فائدة منه.. فقد أثبتت الكثير من الوقائع، أن الحوار ينتج، لكن عندما يكون صادقاً، وعندما نبعده عن أهدافنا الذاتيّة، ولا نحوله إلى سلعة في لعبة المصالح... لم ينجح الحوار الإسلامي المسيحي، أو الحوار الإسلامي الإسلامي، أو الحوار الوطني، لأننا لم نستحضر فيه قيم الإسلام والمسيحية، ولا القيم الوطنية ومصلحة الوطن... فلو استحضرنا هذه القيم، لكان الحوار حقق النتائج المرجوة، فما أكثر ما يجمع بين الإسلام والمسيحية! وما أكثر ما يجمع بين المذاهب الإسلامية! وما أكثر ما يجمعنا في دائرة الوطن! وبالحوار، نوسّع المشتركات، ونستطيع أن نقلّل الفوارق. لقد فشل الحوار عندما حوَّلنا الدين والمذهب، وحتى الوطن، إلى واجهات لمواقع وامتيازات ومصالح يسعى الكلّ إلى الوصول إليها.. حتّى تحوّل الحوار إلى مادّة لتقاسم النفوذ وتوزيع المواقع. ولفت سماحته إلى الواقع السيء مشدداً: لا أريد هنا أن أسيء إلى صورة هذه المناسبة السَّعيدة والجميلة الّتي نبارك فيها القيمة الّتي يحملها كلّ فرد منكم نكرمه اليوم، ما أريده هو أن نظهر الواقع كما هو، لنعترف ببؤسه، حتى نعمل لكي لا تتكرر المشاهد السوداء التي بددت كلّ ما هو مشرق وجميل في وطننا، ولا نزال نعاني تداعياتها، ولا سيّما ونحن نستعيد اليوم ذكرى الحرب الأهلية المشؤومة التي عصفت بهذا البلد.
وأضاف: لسنا مثاليين لا نفقه معادلات الواقع حين ندعو إلى أن يكون الحوار منهجاً لمعالجة مشكلاتنا وخلافاتنا ومدخلاً لبناء أوطاننا.. نحن أكثر واقعية، لأننا نعي أن لغة الحوار هي الأبقى، لأن جذورها تمتد منذ أن كانت الرسالات وانطلقت الكلمة، ومنذ وجد الإنسان، وستبقى ما دام موجوداً.. اللاواقعيون هم من يرفضون الحوار.. هم يظنون أنهم بالرفض للآخر، وبالانغلاق على ذواتهم، يستطيعون العيش في كانتوناتهم بسلام.. نحن واقعيون عندما نتمسك بالحوار بمعناه الإنساني العميق، لأننا بالحوار نحول دون أن يصبح الوطن غابة، أو يتحول إلى ساحة قتال بين الطوائف والمذاهب.. قتال لا طائل منه.. وقتال بلا نهاية.. قتال يستنزف البشر والعمران، ويملأ الأجواء بكل ألوان الحقد والبغض والكراهية. وحد سماحته المفهوم الذي يراه للحوار:نعم، نحن ندعو إلى أن يكون الحوار منهجاً للحياة في كلّ مجالاتها، لا أداة توظيف سياسيّ، ولا وسيلة للهيمنة على الآخر، أو الدخول إلى ساحته لاختراقها، ونحن نراهن وسوف نبقى نراهن على كلّ الصفات والمزايا التي وهبها الله للإنسان، ولم يهبها لغيره من المخلوقات.. إننا لن نتوقَّف عن الرهان على العقل وحساباته المنطقية الّتي تفيد بأن لا مصلحة لأحد في استمرار حرب الجميع ضد الجميع..
بعد أن علمتنا التجارب السابقة أن لا أحد سينتصر في صراع الهويات. إننا نصر على هذا الحوار.. لأننا نرفض للإنسان أن يكون إما قاتلاً أو مقتولاً.. نصر على الحوار الذي يعني لنا أن ثمة طريقاً آخر للخروج من هذا النفق المظلم.. يفتح آفاقاً أخرى تخرجنا مما نحن فيه من بؤس وموت ودمار.. إلى بلد يعم فيه السلام وتحفظ فيه حقوق الجميع.. وتابع: سوف نبقى نراهن على أن يؤدي هذا الصوت الحواري إلى انتفاضة قريبة للضمير الإنساني، الذي لن يستطيع أن يتحمل أكثر هذه الآلام والمصائب الناتجة من شيوع ثقافة الحقد والكراهية والإقصاء... إنّنا لن نيأس من الرهان على يقظة واعية للفطرة الإنسانيّة التي تدعو إلى الأخوة بين البشر: "الناس صنفان؛ إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".. على يقظة تفتح الباب لطيّ صفحة هذا الصراع العبثي الذي يكاد أن يحول بلداننا إلى دول ومجتمعات فاشلة.. وشددا على أنه لا بدَّ لصوت الحوار من أن يبقى مرتفعاً، مهما قست الظروف.. إن وطناً لا تسود فيه لغة الحوار هو وطن غير قابل للحياة.. إن شعباً لا يعالج اختلافاته بالحوار، هو شعب يعيش حرباً أهليّة قد تنفجر في أية لحظة... أن نحمل الحوار كرسالة، معناه أن نؤكد إنسانيتنا.. وأن نؤكد إنسانيتنا معناه أن نعترف بالآخر والمختلف.. أن نحدق في مضمون خطابه للتعرف إلى ما يجمعنا به.. أن نتجرّد من عصبياتنا ومن كل الإرث السلبي الذي نحمله عن الآخر.. هذا هو الحوار الّذي نريده، والذي أراده الله سبحانه للحياة.. هو الحوار المنتج.. الحوار الذي يمد الجسور، الحوار الذي يردم الهوة بيننا.. بالتقائنا على كلمة سواء... وختم بالقول:إنّ مسؤوليّتنا ــ أيّها الأخوة ــ كبيرة في أن نعمل لتعزيز هذا النهج الحواري وتوسيع أطره، وأن نرتقي به في تعميق المعرفة بالآخر، وفي فنون الحوار وإتقان مهاراته، وفي تقديم النموذج الأخلاقيّ اللائق به، حتى نكون مؤهّلين لبناء أجيال جديدة من الحواريين الذين نريد منهم أن يشكلوا معالم نور في هذا الظلام الدامس... إنّ هذا التّكريم هو تكريم لعطائكم.. هو تكريم لكل القيم الإنسانية.. هو تكريم لكل الجهود التي بذلتموها للتّحرّر من العقد المذهبيّة والطّائفيّة.. هو تكريم لكل المبادرات التي تسعى إلى تعزيز لغة التواصل والمحبة والرحمة... وإلى بناء الجسور الّتي تجمع بين الناس رغم انتماءاتهم المختلفة... وليكن هذا التّكريم حافزاً لنا ولكم، للعمل معاً من أجل مجتمع أفضل وإنسان أفضل... ثم تعاقب على التعريف بالسادة المكرمين كل من: سماحة الشيخ سامي أبي المنى، سماحة الشيخ القاضي محمد أبو زيد، الأستاذ يوسف مرتضى، الأستاذ قاسم قصير، سماحة الشيخ حسين شحادة. وقد أجمع المتحدثون على أهمية الشخصيات المكرَّمة في ترسيخ التقريب بين الأديان والثقافات وتمهيد الطريق نحو وطنٍ يتعايش فيه أبناؤه على قدم المساواة، وفي بلورة فكرة المواطنة بين جميع اللبنانيين. وفي الختام قدّم العلامة فضل الله دروعاً تقديريّة للمكرّمين.