لقد كانت عقيدة الشيعة في زمن الأئمة عليهم السلام عقيدة توحيدية خالصة ،ولكن لما بدأت تنتشر بين المسلمين _منذ زمن الخلفاء العباسيين خرافات اليونانيين والفرس وأساطير آلهتهم وفلسفتهم وأوهام المجوس واليهود والنصارى ،وهي عقائد مغالية مشوبة بالشرك ،والتي وجدت في بداية الأمر بالطبع رد فعل شديد تجاهها بسبب معارضة الإسلام الشديدة للشرك والخرافات وكل ما يخالف التوحيد ،لكن بعد ذلك تمكنت تلك العقائد المغالية من مواصلة انتشارها شيئا فشيئا بين عامة المسلمين ،ثم انتشرت تدريجيا بين بعض الشيعة ،بالرغم أن أئمتنا عليهم السلام كانوا يكافحون بكل شدة مثل تلك العقائد المغالية ،ويظهرون براءتهم منها ، وينبذون قائليها ،خاصة في عصر الإمام الصادق عليه السلام ،حيث انتقلت الخلافة من الحكم الأموي إلى الحكم العباسي فاستفاد عليه السلام من هذه الظروف وانشغال الحكام عن ممارسة الضغط عليه ، فواجه الانحراف الفكري والعقيدي والفقهي وبدأ يعالج مشكلة تراكم هذا الكم الهائل من الموضوعات من الأحاديث والأحكام والذي حصل نتيجة الجهل والتخلف ، أو من فعل الذين أرادوا تسويق أفكارهم المنحرفة والمغالية وآرائهم المغلوطة ،فدسوا ما دسوا من الأحاديث المكذوبة وغير الصحيحة .
ثم دخل لاحقا النظر الفلسفي والكلامي بين علمين كبيرين من أعلام الفكر والفلسفة الإسلاميتين في القرن السادس الهجري والذي وقف على أحد طرفيه فخر الدين الرازي ،فيما وقف على طرفه الآخر نصير الدين الطوسي ..
لكننا نجد ندم الفخر الرازي في دخوله هذه الأنفاق الفلسفية المسدودة ،وشعوره بعدم جدوى علمي الكلام والفلسفة حيث ذكر في وصيته :"ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ،فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن ،لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله ،ويمنع عن التعمق في المعارضات والتناقضات وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضائق العميقة والمناهج الخفية ..." (وصية الرازي في"عيون الأنباء"ابن أبي أصيبعة ،م2 ، ص 37) .
"وهكذا نرى أن لغة الفلاسفة هي غير لغة الآخرين ،وأن بعضهم مثل الشعراء تراهم "في كل وادي يهيمون "،ويؤكدون ما لا يفهمون ،بل يعيشون على الألفاظ ، ويختلفون على المعاني ،ويتقاطعون على الأفهام ،ويجزمون بما لا جزم فيه ، ويقطعون بما لا يمكن القطع فيه ،ولو عرف كل واحد منهم حده ، لوقف عنده كما يقول العقلاء ، أي لو شخص كل واحد منهم قدره في هذا العالم اللامتناهي الملئ بالأسرار ،لوقفوا جميعهم على أرض مشتركة خلاصتها كما قال القرآن الكريم : {...وفوق كل ذي علم عليم }(يوسف:76) ولتواضعوا ،أو استقروا متواضعين في حدود الآية الكريمة الأخرى :{ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليل} (الإسراء:85) وقد نمت ظاهرة علمي الكلام والفلسفة بشكل لم تكن نموا صحيا. فالغلو ظاهرة غير طبيعية تنم عن الانحطاط الفكري والفساد العقيدي ،ومرد هذا الفساد إلى عدم فهم الدين والابتعاد عن حقيقة العبودية لله والانبهار بكرامات المخلوق دون عظمة وقدرة الخالق .قال تعالى :{ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز} (الحج :74).
وقال الإمام علي عليه السلام :"عظم الخالق عندك يصغر المخلوق في عينك"(شرح نهج البلاغة ،ج18 ،ص 231،حكمة 125).