دشّن اتفاق «تعيين الحدود البحرية» بين مصر والسعودية، والذي انتقلت بموجبه جزيرتا تيران وصنافير إلى المياه الإقليمية السعودية، فصلاً جديداً من تاريخ الشرق الأوسط. تأتي الأهمية الاستراتيجية للجزيرتين المشار إليهما من كون الممر المائي بين سيناء وجزيرة تيران هو الممر المائي الوحيد لخليج العقبة، أي المنفذ الوحيد للأردن وإسرائيل للوصول إلى آسيا وأفريقيا. وبموجب الاتفاق المشار إليه يتحوّل مضيق تيران فعلياً إلى ممر دولي متعدد الأطراف بعدما كان جزءاً من مصر، حيث تخضع الممرات الدولية إلى أحكام القانون الدولي وما تحمله من تعقيدات تجعل إسرائيل قادرة على التدخل فيها بطرق شتى. وبرغم القيمة الرمزية والمعنوية والاستراتيجية للمضيق، إلا أن المغزى الأعمق للاتفاق يتمثل في دخول المنطقة مرحلة التعميم العلني لنظام «كامب ديفيد» الإقليمي، وما يتضمّنه ذلك من ترتيبات جديدة لصياغة توازنات الإقليم وفقاً لمحور يضمّ السعودية ومصر وتركيا وإسرائيل في مواجهة المحور الذي تقوده إيران.
الحسابات السعودية
تخوض السعودية صراعاً إقليمياً مريراً مع إيران عبر ساحات متعدّدة، وتحتاج الرياض إلى قوة عسكرية من خارجها لتعديل ميزان القوى مع إيران، ولهذا الغرض فقد حشدت قوات من عشرات الدول الإسلامية للقيام بمناورات عسكرية، كنواة لتحالف تقوده يمكّنها من تعديل موازين القوى الإقليمية. وتترافق المساعي السعودية مع ثلاثة عوامل غير مؤاتية: الأول «تخلّي» واشنطن عن دعمها في مواجهة إيران، والثاني تغيّر موازين القوى الدولية، بحيث لم تعُد الهيمنة الأميركية على النظام الدولي بالسفور الذي كانت عليه قبل سنوات قليلة مضت، فيما يتمثل العامل الثالث في تراجع أسعار النفط دولياً، وما صاحب ذلك من تراجع نسبي لمداخيل السعودية ومن ضعف نسبي لقدرتها على شراء رضى شعبها والتأثير في خيارات القوى الإقليمية والدولية. من هذا الجانب تبدو استمالة مصر إلى الجانب السعودي أمراً ملحاً، بعدما أثبتت التجربة القريبة أن الدول الإسلامية الوازنة مثل باكستان وتركيا غير مستعدتين للتحالف الحصري مع الرياض في مواجهة طهران، وأن أكثر ما تستطيعان تقديمه لا يتجاوز التصريحات الإعلامية حفاظاً على علاقاتهما الاقتصادية مع إيران، خصوصاً بعد رفع الحصار الاقتصادي عليها.
دعمت الرياض النظام المصري منذ العام 2013 مالياً وسياسياً على خلفية الرغبة المشتركة في الإطاحة بجماعة «الإخوان المسلمين»، لكن الأداء المصري في الملفين السوري واليمني ورغبة القاهرة بتشكيل «قوة عربية مشتركة» مقرها القاهرة صدم صناع القرار في السعودية. ونظراً لحاجة النظام المصري الشديدة إلى الدعم المالي على خلفية تراجع سعر الصرف والعجز في الموازنة المصرية بسبب انهيار السياحة وتراجع موارد قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج وغياب الرؤية الاقتصادية واستمرار شبكات الفساد في نهب الثروات الوطنية المصرية من دون رادع، فضلاً عن حاجته إلى الدعم السياسي بعد تصاعد الانتقادات الدولية لإغلاق المجال العام وقمع الحريات وتفاعل قضية الباحث الإيطالي القتيل جوليو ريجيني، فقد مثلت «اتفاقية تعيين الحدود البحرية» فرصة ثمينة للسعودية كي تضرب عصافير عدة بحجر واحد:
أولاً، تكرار سوابق تاريخية للمملكة في استثمار لحظات الضعف لدول جوارها العربية لاقتناص مكاسب حدودية، مثلما فعلت مع اليمن في نجران وعسير، ومع الإمارات في «واحة البريمي» و «حقل الشيبة» و «شريط العديد»، ومع الكويت في «المنطقة المحايدة»، والبحرين في «حقل السعفة» وقطر في «مخفر الخفوس».
ثانياً، انتزاع اعتراف رسمي صريح من القاهرة بقيادة المملكة للعالم العربي، وطي صفحة الخلافات في الملفين السوري واليمني بتسييد وجهة النظر السعودية.
ثالثاً، تصفية الحساب التاريخي مع قيادة مصر للعالم العربي خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تحت حكم الرئيس جمال عبد الناصر، والتكفير عنها بكل ما رافق زيارة الملك السعودي من مظاهر «انبطاح إعلامي» وتسليم نخبوي وسياسي يندى له الجبين الوطني المصري.
رابعاً، ربط المساعدة المالية الموعودة باستثمار في جسر يربط البلدين واستثمارات في شبه جزيرة سيناء القريبة بحرياً من المملكة، والمهمة استراتيجياً بسبب موقعها على البحر الأحمر ومجاورتها لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بما يجعل الاستثمار السعودي وسيلة ممتازة من وسائل التحكّم، ليس فقط في السياسات المصرية، وإنما أيضاً في محددات الأمن القومي لمصر.
خامساً، وهو الأهم، الانضمام إلى ترتيبات «كامب ديفيد» بكل ما تعنيه من التزامات عسكرية بخصوص أمن البحر الأحمر والمضائق البحرية (حدثت بالفعل) وتفاهمات سياسية معلنة وليست سرية، وبالتالي إعادة وضع المملكة على قائمة الاهتمام الأميركي المؤسسي بأدوات أخرى غير النفط والإيداعات المالية في المصارف الأميركية، أقله ريثما تنتهي فترة ولاية أوباما نهاية العام الحالي.
الحسابات المصرية
على خلاف الحسابات السعودية المبنية على أسس عقلانية ـ سواء اتفقنا معها أو اختلفنا ـ بدت الحسابات المصرية محكومة إلى حد كبير بالضائقة الاقتصادية والعزلة الدولية المتزايدة، بحيث ودّعت ثوابت حكمت الأداء المصري في العصور الرئاسية المختلفة. وإذ تنص المادة الأولى من الدستور المصري الحالي حرفياً على أن «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحّدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها»، يوجه كل اللوم إلى النظام السياسي الذي أقدم على هذا الاتفاق من دون شفافية ومناقشة في الرأي العام.
يبدو أن الأمر ينطوي هنا على مقايضة مع الرياض لحشد الوزن السعودي مالياً ونفطياً للدفاع عن النظام السياسي في المحافل الدولية، وهي مقايضة من نوع جديد تضاف إلى مقايضات أخرى عرفتها دول أخرى في المنطقة في العلاقة مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، من قبيل المهادنة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي مقابل غض الطرف عن غياب الحريات وحقوق الإنسان في الداخل، وكذلك تقديم التنازلات في مجال السيادة الاقتصادية والتسليم بحكم مؤسسات رأس المال العالمي مثل «البنك الدولي» و «صندوق النقد الدولي». وسابقة التنازل ـ إن أُقرت نهائياً ـ عن جزء من الحدود التاريخية للبلاد (وبصرف النظر عن النقاش القانوني بشأنها) مقابل مساعدات مالية أياً كان حجمها، يحمل بوضوح معنى المهانة الوطنية ـ وليس الأخوة العربية ـ بأي حال.
لم ينجح الإعلام ونخبة النظام الذين انبروا للدفاع عن سعودية الجزيرتين ـ في سابقة مدهشة في تاريخ العلاقات بين الدول ـ في إقناع ملايين المصريين، حيث اندلعت التظاهرات يوم الجمعة الماضي في مصر احتجاجاً على الاتفاق لثبوت الحق المصري في الجزيرتين بالدم قبل الخرائط. إذ لم ينسَ المصريون مئة ألف شهيد قدمتهم بلادهم في حروبها مع إسرائيل لأجل الأرض والجزر. وإذا سايرنا الرواية المصرية المتهافتة والقائلة بتبعية الجزيرتين للسعودية، فلماذا لم تتقدّم الأخيرة بشكوى إلى مجلس الأمن بعد احتلال إسرائيل للجزيرتين في عامي 1956 و1967؟ ولماذا لم تدخل السعودية طرفاً في «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية» سنة 1979، تلك التي وضعت الجزيرتين داخل المنطقة (ج) من تلك الاتفاقية وخاطبت مصر وحدَها بشأنهما؟ وإذا كانت الجزر سعودية خالصة، كما يقول النظام ووسائل إعلامه، فلماذا لم يُقدم أي من رؤساء مصر السابقين (محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك ومحمد مرسي) على إعادتهما للسعودية؟ هل تستطيع السعودية إثبات ملكيتها للجزيرتين «بممارسة سيادة متصلة» سابقة لتوقيع الاتفاق منذ تأسيس السعودية العام 1932، ولو ليوم واحد أو ساعة واحدة أو حتى دقيقة واحدة؟
وحتى أبعد من اللحظة الحالية، كيف يمكن تسويغ مواجهة إيران ونفوذها في المنطقة بالانضمام إلى حلف مذهبي كبير يضمّ إسرائيل؟ فالأحلاف المذهبية لا تناسب مصر بتكوينها الحضاري والتاريخي (وهذا نقاش آخر)، أما إسرائيل فقد كانت وستظل الخط الفاصل بين الحلال والحرام سياسياً وشعبياً.
الخلاصة
يبدو النظام في مصر مقبلاً على أزمة شرعية حقيقية هي الأعمق بهذا الحجم منذ الإطاحة بجماعة «الإخوان المسلمين» في العام 2013، فالتظاهرات ضد اتفاقية «تعيين الحدود البحرية» بين مصر والسعودية التي جرت الجمعة الماضي تحت شعار: «عيش.. حرية.. الجزر دي مصرية»، ضمت أطيافاً ليبرالية ويسارية وقومية واسعة وحركات شبابية تستمدّ وجودها من مشاركتها في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011. ومع الدعوة إلى تظاهرات جديدة يوم الخامس والعشرين المقبل (ذكرى تحرير سيناء وبضمنها جزيرتي تيران وصنافير)، يظهر لاحم وطني جديد للتيارات السياسية المختلفة في الأفق، يحمل معه تحديات داخــــلية ضخمة للنظام الذي يدفع باهــظاً من شرعيته ثمناً لإغلاق المجــال العام وغياب الرؤية الاقتصادية والبوصــلة السياسية في آنٍ معاً.
ملاحظة أخيرة: كتبت هذه السطور بالاستناد إلى المادة 65 من الدستور المصري ونصها: «حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر».