حين أصدرت كتابي، اغتيال الدولة، في تموز 2006، كان التعليق الذي سمعته أكبر عدد من المرات يتناول العنوان قبل المضمون، وقد جاء على صيغة سؤال: وهل كانت الدولة موجودة لتكون عرضة للاغتيال؟

وجوابي ، نعم ، كانت موجودة بقوة ونحن، اللبنانيين، شاركنا بتدميرها. نحن صنعنا الحرب وهي حربنا وليست حرب الآخرين على أرضنا.

نحن استدرجنا الدب إلى زرعنا. استدرجنا الصديق والعدو وتوهمنا أننا قادرون على توظيفهما لصالح مشاريعنا، ولم ندرك مخاطر ذلك، ولم ننتبه إلى أن ما فعلناه ليس سوى اسلوب لاغتيال الدولة وتدمير الوطن. تنطلق قراءتي النقدية للحرب، وهي تندرج في إطار النقد الذاتي، من اعتقادي بأن التشبث بالمواقف المبدئية يحول دون الاستفادة من دروس الحرب، وهو لا يقل ضررا عن التبرؤ منها، ومن اعتقادي أيضاً بأن النقد البناء، لا جلد الذات، هو السبيل لتفادي تكرار نتائجها الكارثية. ولذلك تركز القراءة، بشكل خاص، على ما فعلته الحرب بالوطن والدولة والوحدة الوطنية،  لتصل إلى استنتاج الحل الوحيد الممكن، في الأفق القريب، لأزمة الوطن وكل الأوطان العربية، القائم على بناء دولة القانون والمؤسسات، بديلاً عن دولة الوراثة الصريحة في بعض البلدان، أو المقنعة كما هي في بعض الجمهوريات ومنها لبنان.

من هنا تولدت لدي القناعة بإمكانية إدراج الحرب الأهلية اللبنانية ضمن إطار أحداث الربيع العربي، لأن حل المعضلة في لبنان كما في سائر أنحاء الأمة يكمن في تنظيم الاختلاف في ظل الديمقراطية لا في تفجيره عبر الحروب الأهلية ولا في طمسه في أنظمة الاستبداد "الأبدية". فرضيتي عن اغتيال الدولة كانت أول غيث الاستنتاجات التي توصلت إليها في قراءتي النقدية  لأربع تجارب، تجربة اليسار الذي انتميت إليه، وتجربة الأحزاب التقدمية التي عقدنا معها تحالفات صادقة وخضنا حروباً أخوية ضارية، وتجربة القوى السياسية التقليدية التي نعتناها بالرجعية ،ثم تجربة الميليشيات المسلحة يمينها ويسارها. كانت البداية مع ما كانت تردده قيادات شيوعية ترى أن "نضال" الحزب الشيوعي يستهدف القضاء على "دولة البرجوازية" لتقوم مكانها دولة بقيادة "الطبقة العاملة".

وهذه كلها مصطلحات مشتقة من الماركسية وبصورة خاصة من البيان الشيوعي. في أحد الاحتفالات السنوية لتكريم ذكرى مهدي عامل شارك فالح عبد الجبار بمداخلة عن الدولة في المشروع الماركسي، ربما كانت نقداً غير مباشر لكتاب مهدي، الذي يحمل عنوان "في الدولة الطائفية"، قال فيها إن الماركسية تكاد تكون خلواً من أي كلام عن الدولة، لأنها ركزت اهتمامها على الاقتصاد، باستثناء كتابين، الأول لأنغلز صديق ماركس وشريكه، عن أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، والثاني وضعه لينين عن الدولة والثورة، رأى فالح أن أهميته تكمن في خلوّه من أية أهمية. شجعني مثل هذا النقد القاسي على القول أن ما فعله اليسار في الحرب الأهلية كان شكلا من أشكال اغتيال الدولة.

المعارضات الأخرى كانت تدور في الفلك القومي ولم يكن يختلف مشروعها حيال الدولة عن مشروع القوى الماركسية اختلافا نوعيا، فكلاهما كان يقف من الدولة القائمة في لبنان موقفا عدائيا وكان يريد إلغاءها ليقيم بديلا عنها دولة أخرى ذات طابع قومي أو أممي، أي دولة تجافي كل مواصفات الحد الأدنى الديمقراطية المتوافرة في النظام اللبناني. ظهر فريق المارونية السياسية عند بداية الحرب، و خلفه حلفاؤه من القوى السياسية التقليدية التي تحمل اسم الاقطاع السياسي، في صورة الحريص على الدولة والنظام.

غير أن وقوفه ضد التجربة الشهابية وتحريضه الطائفي عليها كانا كافيين لتبديد هذا الحرص المزعوم، إذ إن نواقص الديمقراطية  فيها لا تبرر حجم الهجوم الذي قاده الحلف الثلاثي الماروني ضدها، فضلاً عن أنه كان من الممكن تطويرها وتشذيبها بدل القضاء عليها، ولاسيما أن قدرة الدولة على الاستمرار مرهونة بقدرتها على التطور وعلى التخلص من التشوهات التي أدخلتها الصيغة اللبنانية على مفهوم الدولة الحديثة. ومما لا شك فيه أن ذلك الموقف كان نذيراً لانهيار الصيغة، ومبرراً لنهوض مشروع السنية السياسية الذي ليس من المارونية السياسية سوى الوجه والقفا، واللذين سيبرران نهوض مشروع للشيعية السياسية بعد الطائف، ودفع المشاريع الطائفية إلى ذروتها المذهبية، وأكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الدولة الديمقراطية هي المستهدفة وأن البدائل كلها، الوطن القومي المسيحي والدولة الاسلامية والدولة القومية العربية والدولة الأممية ودولة المهدي المنتظر وولاية الفقيه، ليست سوى صيغ متنوعة كانت تسعى إلى اغتيال الدولة القائمة المتميزة عن سائر الانظمة المحيطة بمواصفات الحد الأدنى الديمقراطية. سأتناول في أربع مقالات في الأسابيع المقبلة قضية الحرب على الدولة وتجليات ذلك في تخريب القضاء والإدارة والتعليم وتعطيل الدستور ومسؤولية اليمين واليسار عن ذلك.

(المدن)