يحط الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في بيروت اليوم، ولعلها من المرات النادرة التي يزور فيها رئيس دولة كبرى أو صغرى، دولة ثانية موقع الرئاسة شاغر فيها، وبالتالي لا رئيس للجمهورية يستقبله. وان كان لبنان قد قرر القيام بالواجب والتعويض عن «فخامته» باستقبال مجلسي رسمي يقيمه رئيس مجلس النواب نبيه بري للضيف الفرنسي في ساحة البرلمان.
يبيت هولاند في بيروت، وسط إجراءات أمنية مشددة، قبل أن يكمل جولته الى مصر والاردن، وقد سبقته إشارات فرنسية تقدم الزيارة كتعبير عن الأهمية التي توليها فرنسا للبنان، ولعمق الصداقة والتضامن معه في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها المنطقة.
بهذه العناوين استبقت باريس زيارة وصفتها بـ «زيارة عمل» للدلالة على جديتها، وأملت أن تكون مثمرة، خاصة أن هولاند، بحسب مصادر ديبلوماسية فرنسية، آت ليصغي الى محاوريه جميعا، من رسميين ورجال دين وقوى لبنانية سياسية وحزبية.
ولكن في جعبة اللبنانيين الكثير ليطرحوه على الرئيس الفرنسي؛ من أزمة النازحين السوريين وما تشكله من إرهاق للبنان، الى الخطر الإرهابي، الى الاستحقاق الرئاسي المعقد، وصولا الى موضوع الجيش اللبناني وما يتصل بحجب السلاح، وخصوصا إلغاء الهبة السعودية من المخازن الفرنسية، وتبديل وجهة تصديرها من بيروت الى الرياض.
كلها عناوين، لا يبدو أن أجوبتها موجودة في جعبة الرئيس الفرنسي، فالأجواء التي ترافق زيارته لا تشي بأنه يحمل «المنّ والسلوى»، بل هي فارغة لا أفكار فيها ولا مبادرات ولا مشاريع حلول لأي من الملفات اللبنانية الشائكة.
ولعل أبرز علامات فراغ الزيارة من أي محتوى جدي، ما ينقله مراسل «السفير» في باريس محمد بلوط عن مصادر فرنسية واسعة الاطلاع، من أن هولاند يصل الى لبنان حاملا تاريخا من الفشل والإخفاقات في العديد من الساحات؛ من سوريا الى العراق والخليج وصولا الى الملف النووي، بالإضافة الى ثقل الإرهاب الذي تتحمل إدارة هولاند الفشل في مكافحته، برغم وصوله الى العمق الفرنسي، وأخطر ضرباته تلك التي استهدفت المجلة الساخرة «شارلي ايبدو»، وكذلك «الجمعة الدامية» في 14 تشرين الثاني 2015 عبر التفجير الثلاثي في قلب باريس، والذي استهدف مسرح باتاكلان وبعض العابرين في قلب باريس وأدى الى سقوط مئات القتلى والجرحى، ومع ذلك كانت المساهمة الفرنسية في الحرب على الإرهاب متواضعة جدا.
أكثر من ذلك، تأتي الزيارة في وقت يمر فيه هولاند في أكثر لحظاته ضعفاً، حيث كشف آخر استطلاع للرأي انحدار شعبيته الى ما دون 20%، وآخر إطلالة تلفزيونية له على الفرنسيين قبل ساعات لم تلق متابعة أكثر من 14% منهم، فضلا عن أن ما يزيد عن 90% لا يحبذون إعادة ترشيحه لولاية ثانية، من هنا فهو لا يستطيع أن يقدم شيئا حتى ولو التزم بذلك، فضلا عن أن فرنسا ستدخل اعتبارا من الصيف المقبل في المدار الانتخابي تمهيدا للانتخابات الرئاسية في أيار من العام المقبل، ما يعني ان هولاند الضعيف جماهيرياً، سيصبح تأثيره الداخلي والخارجي في أدنى درجاته.
وتلفت المصادر الى أن الادارة الفرنسية التي يقودها هولاند لا تعتمد سياسة فرنسية مستقلة حيال ملفات كثيرة، سواء في اليمن أو سوريا وحتى لبنان، بل إنها تعتمد سياسة مرهونة بالاتجاهات السعودية، أقرب ما تكون الى ديبلوماسية الصفقات مع السعودية. علما ان هذه الديبلوماسية كانت متبعة مع قطر في عهد نيقولا ساركوزي، وأصبحت أقوى في عهد هولاند، حيث انتقلت باريس من الرهان على المصالح القطرية الى الرهان على المصالح السعودية، وبالتالي مواقفها من لبنان وسائر المناطق، متماهية مع الموقف السعودي.
تبعا لذلك، تقول المصادر، لا يعول على الزيارة لبنانيا، خاصة أن الرئيس الفرنسي لا يحمل في جعبته أية مبادرات أو أفكار أو اقتراحات حلول على صلة بالاستحقاقات اللبنانية وفي مقدمها الاستحقاق الرئاسي.
واذا كان وجود الرئيس الفرنسي في لبنان يعد إشارة فرنسية الى مدى اهتمام باريس بهذا البلد، إلا ان المصادر تقول عكس ذلك، فالاهتمام المقصود، ليس بالمعنى التقليدي والتاريخي المرتبط بالوضع اللبناني، أو بالاستحقاقات اللبنانية أو ما يتصل ببعض المكوّنات اللبنانية وعلاقتها بفرنسا، بل هو اهتمام من نوع آخر عنوانه الحرص على الاستقرار في لبنان ودعمه لأسباب فرنسية أوروبية حصرا تتعلق بالنازحين السوريين.. فثمة مخاوف جدية لدى الفرنسيين والأوروبيين عموماً، من أن أي اختلال أو زعزعة للاستقرار في لبنان، قد تجعل هذا البلد بؤرة خامسة الى جانب البؤر الليبية والتركية والسورية والعراقية لتوريد النازحين، ما يعني في هذه الحالة أن موجات نزوح كبرى ستتدفق في اتجاه أوروبا.
وبحسب المصادر الفرنسية، فإن هولاند لا يحمل طرحا في ما خص الانتخابات الرئاسية في لبنان، بعد فشله في لعب دور على هذا الخط، وإمالة الدفة نحو مرشحين معيّنين، وتشهد على ذلك المحاولات الفاشلة لجر الجانب الايراني الى البحث في الملف الرئاسي، واصطدامه برفض طهران التدخل في ما هو شأن لبناني، وكذلك تسرّع هولاند نفسه في مماشاة وتأييد طرح الرئيس سعد الحريري بترشيح النائب سليمان فرنجية، قبل نضوج التوافق اللبناني والإجماع على هذا الطرح.
وكما لا يمكن التعويل على الزيارة رئاسيا، كذلك لا يعوّل عليها تسليحيا للجيش اللبناني أو سائر الاجهزة الامنية اللبنانية، فبرغم العواطف السياسية الفرنسية التي تطلق بين حين وآخر، فإن التوجه الفرنسي نحو تقديم المساعدات العسكرية للجيش اللبناني منعدم بالكامل، وما تلقاه لبنان في هذا السياق، ليس سوى وعود لم تنفذ على الإطلاق، على غرار ما حصل بعد الاجتياح الإرهابي لبلدة عرسال في 2 آب 2014، فقد أعلنت باريس يومها وقوفها الى جانب الجيش، وانها بصدد تقديم المساعدات العسكرية الضرورية التي يحتاجها في أقرب وقت لتمكينه من مواجهة المجموعات الإرهابية، والنتيجة أن هذا الوعد بقي حبرا على ورق، ولم يتسلم الجيش ولو رصاصة واحدة.
حتى في موضوع الهبة السعودية، تضيف المصادر الواسعة الاطلاع، فإن فرنسا لم تستطع، بعد مرور سنتين على إعلان تقديمها من قبل المملكة، أن تقنع الرياض بتنفيذ الهبة وتسييلها، وبالتالي ما وصل الى الجيش اللبناني كناية عن 49 صاروخ ميلان قديمة العهد، كما أنها لم تستطع أن تثني السعودية عن قرارها بوقف الهبة، أو حتى إعادة النظر في قرارها وإعادة إحياء الهبة من جديد، فضلا عن أن الإمارات العربية المتحدة كانت قد قدمت الى الجيش اللبناني 12 طائرة مروحية من نوع «غازيل»، وسعت الدولة اللبنانية منذ العام 2007 الى الاستحصال من فرنسا على صواريخ جو أرض من نوع «هوت» لتسليح تلك المروحيات بها، ومنذ ذلك الحين تمتنع باريس عن تقديم تلك الصواريخ.