لم يتفق الجميع على السبب الرئيسي الذي أدى إلى الحرب الأهلية اللبنانية في 13 نيسان 1975 وتوزعت المسؤوليات على أسباب تعكس وجهات نظر أصحابها كالسبب الطبقي بين الفقراء والأغنياء إلى حادثة بوسطة عين الرمانة ومحاولة إغتيال الشيخ بيار الجميل وليس إنتهاءا بالتواجد الفدائي الفلسطيني المستفز لعمق الشعور المسيحي إتجاه بلد يعتبر جنته الوحيدة وسط محيط عربي إسلامي جارف.
وإنطلاقا من هذه الحيثية الوجودية المسيحية في الكيان اللبناني يستطلع أي محلل أن السبب الواقعي لهذه الحرب كان الخشية المستمرة التي تشعر بها الأقليات في الشرق وخصوصا المسيحيين إتجاه وجودهم. لم تكن الحرب بأسبابها واضحة كوضوح نتائجها لأن عوامل كثيرة إشتبكت مع بعضها فحولتها من صراع مسيحي فلسطيني في بداياتها إلى صراع داخلي ضمن كل طائفة في خواتيمها. فقراءة أحداث 1975 من زاوية زمنية متأخرة مرتبطة بعام 1989 مهمة لإستنتاج واقع وسبب هذه الحرب الدامية التي أودت بحياة أكثر من 150 ألف لبناني. وبعد 41 عاما على هذه الحرب الوحشية أسئلة كثيرة يسألها اللبناني عن وجوده وهويته وإنتمائه ودولته ونظامه.
فهل هي أسئلة طبيعية تسأل اليوم؟
وهل هي أسئلة عادية يسألها اللبناني بعد تجربة مع هكذا نوع من الحروب؟ بالطبع هي أسئلة عجيبة غريبة لا تمت للزمن الذي نعيشه بصلة ولكنها لا تزال تطرح. فلماذا؟! سبب آخر يضاف إلى الهاجس الوجودي والتي أدت إلى الحرب هو هوية وآلية وعقيدة النظام اللبناني والذي تأسس بعقلية المواطن المتميز والمواطن العادي.
فالجمهورية اللبنانية لم تمارس في الواقع عملا سياسيا جمهوريا بقدر ما حولت زعماء الإقطاع في الطوائف إلى حكام لها. تغيرت الألقاب ولم تتغير العقليات ما أدى إلى خلق نظام جميل المظهر ولكنه فارغ المحتوى وقائم على التمييز بين المناطق والطوائف.
وهكذا نظام كان مكسبا مسيحيا بالخصوص إستطاع المسيحيون تحصيله لعوامل تاريخية وسياسية متراكمة.كان لبنان الفكرة والطرح مسيحية بالأساس ولم يكن جغرافيا وسياسيا وإداريا جزءا من سوريا الطبيعية في يوم من الأيام كما يدعي كثر وهذا إنعكس على نمو الهوية الوطنية عند المسيحيين والتي ترتبط بالوجه الفينيقي للبلد وساهمت عبر محطات في تحويل مناطق جبل لبنان إلى منارة في غابة هذا الشرق الذي يسيطر عليه العثمانيين.
إستغل المسيحيون عبر الزمن هذه الإمتيازات مستفيدين من موجات الهجرة والتنوير والإنتداب وأخطاء السلطنة العثمانية ليحولوا هذه الإمتيازات إلى نظام ودولة يؤمن لهم الإستقلالية والحماية، فكانت الجمهورية اللبنانية التي إستمرت في أذهان الكثيرين عبارة عن نظام المارونية السياسية لما تمتع به المسيحيون من حقوق على حساب الآخرين ما أدى إلى خلق ظاهرة الحرمان. كان النظام غير عادل في الحقوق والواجبات ولعل تمسك كثر من المسلمين بتحالفهم مع الفلسطيني في البلد ضد اللبناني الآخر هو بسبب غياب هذا الشق من العدالة فيما يختص موازين القوى.
فالقوة والأمن والسلطة كانت إمتيازات للمسيحيين ولا شيء يعادلها إلا تحالف اليسار ومعظمهم سنة ودروز مع الفلسطيني لتعديل الميزان وفي هذا السياق جاء إتفاق القاهرة 1969. هذا الإتفاق كان أول ضربة للحلم المسيحي في لبنان والذي بوجه أو بآخر يعكس في اللاوعي اللبناني حلم الدولة والجمهورية.
فعلى الرغم من مأزق نظام ما قبل 1975 إلا أن الجيش والقوى الأمنية كانت تفرض هيبتها على الجميع ومؤسسات الدولة تعمل لذلك صدرت دعوات أخرى بعيدة عن أطروحات اليسار السيريالية وطموحات اليمين المتطرفة تدعو إلى إصلاح النظام على قاعدة العدالة لا تغييره.
هذه الدعوات كان رائدها السيد موسى الصدر الذي رفع شعار:" حتى لا يبقى محروم واحد في لبنان" وهو شعار وطني وعميق. والمشكلة في ذاك الوقت أن الكل لم يفهم على الكل بمعنى أن كل مكون كان لا يثق بالآخر على الرغم من أحقية بعض الشعارات في كلا المعسكرين.
فغياب الثقة بالآخر زاد من هواجس الجميع وكان دافعا أساسيا للمسيحيين للتحالف مع الإسرائيلي لإعادة التوازن لموقعهم في لبنان.
واليوم بعد 41 عاما من هذه الحرب يبدو اللبناني فاشلا في دروس التاريخ فتحولت الشعارات وإنقلبت الأدوار وبقيت عقلية الإلغاء موجودة في ذهنية وآلية عمل هذا النظام وغياب أوجه العدالة والديمقراطية الحقيقية عنه.
ما إختلف في العام 1989 عند توقيع إتفاق الطائف الذي أنهى الحرب وأسس للجمهورية الثانية عن ما حصل في العام 1943 وإعلان الجمهورية الأولى، هو أن عام 1943 زعماء الإقطاع إكتسبوا وتقاسموا النظام الجديد أما ب 1989 فزعماء الحرب هم من فعلوا ذلك.
فأي إيجابية أو أمل ولو بعد 100 عام متوقعة من نظام حكامه زعماء حرب وإقطاع.
هي حرب أهلية مستمرة بعناوين مختلفة.