في شباط الماضي ومع استمرار الحرب في سوريا وترسيخ تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" أقدامه في ليبيا، أعلن البيت الأبيض عن خطط لمضاعفة ميزانية الدفاع لأعمالها في أوروبا في عام 2017 إلى 4 أضعافها، لتكون 3.4 مليار دولار بدلاً من 789 مليون دولار. وفي 30 آذار الماضي، أعلنت وزارة الدفاع عن تجدد تلك الخطط، وأنها تشمل إرسال القوات والعتاد، كالأسلحة الثقيلة والمركبات القتالية إلى رومانيا والمجر ودول البلطيق، لكي يتمكن الناتو من مواصلة معركته ويبقى على أهبة الاستعداد. سيتم تدوير تلك القوات في المنطقة، لتجنب أي انتهاك ظاهري للاتفاق التأسيسي الصادر عام 1997 بين الناتو وروسيا، الذي أصدر بالأساس لطمأنة روسيا حيال احتمالات توسع الحلف في دول حلف وارسو السابقة، بحسب تقرير لصحيفة "فورن بوليسي" الأميركية.
كان هذا الوقت هو الأنسب لإصدار مثل هذا القرار بعد اتفاق مينسك في 2015، الذي يقضي بتسوية النزاع في إقليم دونباس والذي أصبح في النهاية اتفاقاً لم يستطع الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو تنفيذه. وتلقت حكومة بوتين ضربة موجعة من خلال العقوبات الاقتصادية، فحولت سياستها إلى الاتجاه نحو تغيير علاقاتها مع الغرب، حتى ولو كان بشروطها الخاصة، واستخدمت التدخل في سوريا كورقة لإعادة نفسها كقوة كبرى على الساحة العالمية.
روسيا التهديد الرئيسي للولايات المتحدة
بالعودة إلى واشنطن، قال مسؤول رفيع في البيت الأبيض إن زيادة الإنفاق ونشر القوات المنتظر لا يتعلقان بأمر حدث في الماضي القريب، ولكنها سياسة طويلة المدى نتجت بالأساس لمواكبة التغيرات في البيئة الأمنية الأوروبية، وأنها أصبحت انعكاساً لموقف جديد ظهرت فيه روسيا كلاعب أكثر صعوبة من ذي قبل، كما تتوافق القرارات الجديدة أيضاً مع رؤية البنتاغون التي تنص على كون روسيا هي التهديد الرئيسي لأمن الولايات المتحدة. ورداً على نشر قوات الناتو، أعلنت روسيا أنها ستتخذ كافة الإجراءات اللازمة للدفاع عن أمنها. بعد ذلك، اتهم الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستوتلنبيرغ، موسكو بالتلويح باستخدام ترسانتها النووية للضغط على جيرانها وزعزعة استقرار النظام الأمني الأوروبي.
وكان رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف قد طلب خلال كلمته في مؤتمر ميونيخ للأمن أن يتعاون الناتو مع روسيا، بدلاً من الدخول في حرب بادرة جديدة، وحذر من قيامهم بالتأكيد يومياً على أن روسيا تمثل الخطر الأكبر على الناتو وأوروبا والولايات المتحدة، وقال: "هذا الأمر يجعلني أتساءل إذا ما كنا في عام 2016 أم في عام 1962". ربما لا يكون هذا الأمر اقتراحاً سخيفاً، فقد يكون الوقت قد حان بالفعل لتبني منظور مختلف للعلاقة بين روسيا والناتو يستطيع كلاهما من خلالها أن يجد نفسه.
يمتلك الناتو حالياً قوات موزعة في دول البلطيق، وقد قام الرئيس الأميركي باراك أوباما بزيارة المنطقة للتأكيد على دعم الحلف، في الوقت الذي أصبح فيه تواجد الناتو بالقرب من الحدود الروسية أمراً غير مسبوق، فحتى في ذروة الحرب الباردة، كان أقرب جنود الناتو من الاتحاد السوفيتي يقف في برلين، بينما اليوم، تقف الترسانة النووية لكل من الولايات المتحدة وروسيا في حالة تأهب قصوى خاصة بعد انهيار العلاقات الأميركية الروسية، وهو ما يزيد من خطورة الموقف.
الجدير بالذكر هو أن العقيدة العسكرية الروسية ترى استخدام الاسلحة النووية في حالة حدوث هجوم تقليدي يمثل خطراً على وجودها، ما دفع علماء الذرة الروس إلى رفع استعدادتهم لأقصى درجاته كما كان الوضع في فترة الحرب البادرة تماماً. ولا تعتبر خطورة النزاع بين الناتو وروسيا أمراً محل تخمين فقط، فمنذ بدأ الأزمة الأوكرانية في عام 2014، قامت روسيا بانتهاك المجال الجوي للناتو بشكل متكرر، حيث قامت بإرسال طائرات استطلاع فوق أوروبا، باستخدام طائرات تم إغلاق أجهزة استقبالها، ما كان خطراً وقتها قد ينذر بكارثة اصطدام جوي، كما قامت بترحيل سفينة حربية أميركية من سواحل البحر الاسود، وقامت بإجراء محاكاة لهجمات نووية على شرق أوروبا تستهدف دولاً كالسويد، كما قامت بمناورة عسكرية كبرى لتدريب القوات على غزو الدول الاسكندنافية وغيرها من الأنشطة العسكرية الكبرى. كانت كل تلك الأمور جزءاً صغيراً من قائمة بالعمليات التي قامت بها روسيا وأرادت بها إيصال رسالة واضحة للناتو مفادها أن روسيا قد عادت من جديد.
ردة فعل بوتين
إذا أردنا تقييم تصرفات روسيا، فالأمر يعتمد بشكل كبير على ما إذا كنا نظن أن الكرملين والجهات التابعة له قد قاموا بضم شبه جزيرة القرم ودعموا المعارضة في دونباس تحديداً مع تزايد الأعباء الاقتصادية التي تنفقها وزارة الدفاع، هل قاموا بكل تلك الأمور كفعل استباقي أم كرد فعل؟ لخّص وزير الخارجية الأميركي الأسبق ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر القضية بقوله: "ليس من المنطقي أن يكون بوتين قد أنفق 60 مليار يورو لتحويل منتجع صيفي إلى قرية أولمبية للألعاب الشتوية (أجريت في 2014 في سوتشي) من أجل الدخول في أزمة عسكرية بعد أسبوع واحد فقط من حفل ختام البطولة والذي صور روسيا كجزء من الحضارة الغربية".
بناءً على هذا الرأي، يمكننا استنتاج أن ما يقوم به بوتين هو ردّة فعل، وهو ما ظهر أولاً مع احتلال شبه جزيرة القرم في 27 شباط 2014، كان الأمر رد فعل على سقوط ومغادرة حليفه، الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، وهو ما حدث قبل الغزو بخمسة أيام فقط. كان بوتين يأمل أيضاً في علاقات بناءة مع الغرب، إلا أنه لم يتمكن من الجلوس ومشاهدة أوكرانيا تنزلق من المدار الروسي، ووجود احتمال – كما أقر بنفسه - لوقوع ميناء البحر الأسود الحيوي تحت قبضة الناتو، بعد أن كانت روسيا قد نجحت في السيطرة عليه من أوكرانيا عام 1997.
تظهر التوترات الحالية أن الأمر كان أكبر من مجرد السعي للسيطرة على الأحداث في أوكرانيا، إلا أن أصل المواجهة بالنسبة لأوروبا يتشابه مع الأصل لدى موسكو. بالنسبة للروس يتضح أن السياسات الخارجية للولايات المتحدة منذ التسعينات هي عبارة عن محاولات للهيمنة العالمية، وهو ما كان واضحاً للغاية في توسعات الناتو شرقاً. منذ أكثر من 20 عاماً، حذر جورج كينان، مهندس سياسة الاحتواء الأميركية، من أن إدخال الناتو في أي وقت إلى دول حلف وارسو (ناهيك عن الجمهوريات السوفيتية السابقة مثل دول البلطيق) سيشعل حرباً باردة جديدة من المحتمل أن تنتهي بحرب حقيقية، وستكون نهاية للجهود الرامية إلى تحقيق ديمقراطية حقيقية في روسيا.
ويبدو أن هذا الرأي هو مبرر رد فعل بوتين في كييف التي اعتبرها محوراً سياسياً لمواجهة الغرب. وعلى الرغم من أن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو في أي وقت قريب، إلا أن الناتو تعهد بأن تكون أوكرانيا عضوة في الحلف يوماً ما، في الوقت الذي تزداد فيه هيمنة الحلف بالفعل في مناطق أخرى شرق أوروبا. يوجد ما يكفي من الأسباب المقنعة التي تجعلنا نؤمن أن الأزمة الأوكرانية لا زالت قابلة للحل، فمن خلال الخطوط المقترحة سابقاً من قبل كيسينجر وزبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، التي تقضي بعقد اتفاق مع روسيا يشمل تعهداً بعدم ضم أوكرانيا للناتو على أن تترك روسيا لأوكرانيا في المقابل حق تقرير المصير، بما في ذلك الشق غير العسكري، مثل الانضمام للاتحاد الأوروبي. مثل هذه الترتيبات يجب التصديق عليها في قمة بين الولايات المتحدة وروسيا، في إعلان عام وواضح للغاية لإعلان إبرام الاتفاق، ليحصل كلا الجانبين على ما يريده من شروط.
ربما يكون وضع القرم أكثر صعوبة من الصراع الأوكراني، إلا أن إجراء استفتاء بإشراف الأمم المتحدة حول وضع شبه الجزيرة قد يكون مناسباً، على الرغم من أن عودة الإقليم إلى أوكرانيا تبدو أمراً غير محتمل، حيث تشير الاستطلاعات إلى أن 80% من سكان القرم يفضلون الانضمام لروسيا، وهنا ربما يكون على الولايات المتحدة وحلفائها الخضوع لرغبة هؤلاء، وأن يكونوا مستعدين لرفع العقوبات وتسوية العلاقات مع موسكو.
يجب أن لا تتدخل روسيا في تحالفات
في عالم مثالي، ربما يجب أن لا تتدخل روسيا أو أي دولة أخرى أو تأثر في التحالفات التي ترغب أوكرانيا في الانضمام لها، إلا أننا لا نعيش في ذلك العالم المثالي، لذلك، تسمح التسويات المطروحة أعلاه بزيادة التعاون الفعال مع موسكو في مواجهة الخطر الحقيقي والمتزايد وهو الحرب الأهلية في سوريا، التي قد تؤدي إلى مزيد من تصعيد الإرهاب وتهديد استقرار الاتحاد الأوروبي – الحليف القوي للولايات المتحدة - بقوة من خلال أزمة اللاجئين، خاصة مع انتقال جحافل من المتطرفين المدربين عسكرياً بكفاءة إلى أوروبا (من بينهم آلاف الأوروبيين) وقد يتجهوا من خلال جوازات سفرهم للولايات المتحدة مهددين العالم بأسره، كما أن التنظيم في حد ذاته يمثل خطراً كبيراً في المناطق التي ينتشر بها في الشرق الأوسط، وشمال وغرب إفريقيا، وأفغانستان، وحتى في إندونيسيا.
وأظهرت زيارة جون كيري الأخير إلى موسكو أن كلاً من روسيا والغرب يرغبان في إنهاء الأزمة السورية وإيقاف تنظيم الدولة الإسلامية. وترغب روسيا حالياً في منع مقاتلي هذا التنظيم (ومن بينهم أعداد متزايدة من الروس قد تصل لآلاف) من تنفيذ العمليات على أراضيها، والحيلولة دون انتشار المزيد من المتطرفين في منطقة القوقاز، التي تتمركز فيها بالفعل مجموعات من المتمردين المدعومين من التنظيم والمعارضين بشدة لموسكو.
وكان التدخل الروسي في سوريا، وعلى الرغم من الخسائر الكبرى بين المدنيين، قد حقق نجاحاً واسعاً، حيث تهدف روسيا بالأساس إلى إبقاء النظام السوري ومنع تنظيم الدولة الإسلامية من السيطرة على مزيد من الأرض، في الوقت الذي لا تتطلع فيه واشنطن أو أوروبا إلى إرسال قوات برية للقتال داخل سوريا، حيث لا يرغب أحد في اندلاع حرب عالمية جديدة. وهنا، هل يبدو الآن أن الوقت المناسب قد حان بالنسبة للولايات المتحدة لزيادة ميزانية وإنفاق وزارة الدفاع في اتجاه احتواء روسيا، وذلك باستخدام إنفاق لا يقل عما تنفقه على عملياتها في سوريا والعراق وأفغانستان؟ من الواضح أن السؤال يجيب عن نفسه في تلك الحالة.
تمهد إدارة أوباما الساحة لمواجهة لا نهاية لها – وربما حرب - مع روسيا دون أي نقاش عام حول الأمر، وهنا يجب أن توجه الأسئلة لمرشحي الرئاسة من كلا الحزبين حول وجهات نظرهم في كل هذه الأمور وكيف يخططون للتعامل مع العلاقات الروسية (بعيداً عن الأسلوب الذي طرحه سيناتور أوهايو جون كاسيتش الذي يقضي برفض الحديث مع بوتين من الأساس ولكم الروس في الأنف مباشرةً)، في الوقت الذي لم تؤدِّ العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على موسكو سوى لزيادة دعم بوتين، والذي مازالت شعبيته تزيد على 80% في بلاده، ولم تؤد تلك العقوبات سوى لتدمير أي تعاون محتمل مع روسيا. لذلك، قد يكون وجود منهج جديد للتعامل مع موسكو أمراً مطلوباً بشدة وحاجةً ملحة بالنسبة للجميع.
(فورين بوليسي - هافنغتون بوست)