منذ أقدم العصور والعراق لوحة تعددية لأديان وأعراق وطوائف وأقوام، تعايشوا وتسامحوا وتآلفوا وسط ظروف صعبة ومعقدة، واختلفوا في ظل ظروف ومتغيرات سياسية تركت تأثيرها الواضح والكبير على شكل ولون هذه اللوحة التي طالما تباهى بها أهل العراق، لكن في فترة ما بعد استلام القوى والاحزاب الاسلامية السلطة في العراق نيسان 2003 تهدد هذا النسيج بفعل الأعمال الإرهابية التي استهدفت هذه التعددية وآخرها هجمة داعش وما نتج عنها من تهجير وتشريد الآلاف من المسيحيين والايزيديين ، الأمر الذي اضطر الكثير منهم الى الهجرة او التفكير بالهجرة. 

عن إنقاذ التعددية في العراق اُقيمت جلسة حوارية بعنوان ( هل يمكن انقاذ التعددية في العراق؟) تحدث فيها د. سعد سلوم عضو المجلس العراقي لحوار الأديان، والإعلامي آدم بيدار، قدّم الجلسة وأدارها الإعلامي سرمد الطائي.

  النهر الرابع في البدء تحدث د.سعد سلوم عن تجربته خلال عشر سنوات في تعزيز التعددية في العراق من خلال مشروعه الذي أطلقه والذي تضمن اصدار مجموعة من الكتب والدراسات وخبرته في العمل في مبادرة الحوار الاسلامي- المسيحي 2011-2013 والمجلس العراقي لحوار الأديان 2013-2015 ومؤسسة مسارات 2005-2015 حيث ان فكرة التعددية والتنوع الثقافي تلازم العراق ككيان حضاري وكتعبير عن امتداد تاريخي من تفاعل الاديان وتلاقح الثقافات وتعايش الجماعات، إذ لا يمكن لنا تخيل العراق بهوية آحادية صافية دينيا او أثنيا او لغويا، إلا اذا تحدثنا عن "نهاية العراق" كميراث حضاري وتاريخي وروحي.  يعد العراق في نظر سلوم من الدولة الثرية بتعدديتها الدينية والعرقية والمذهبية واللغوية مكونة ما يُطلق عليه "رأس المال الحضاري " او ما يُشير اليه بتسمية "النهر الرابع" في اشارة الى ثلاثية الثروة العراقية المتمثلة بالنهرين دجلة والفرات محور حضارة ميزوبوتاميا، فضلا عن النهر الثالث المتمثل بالنفط محور التنمية للعراق المعاصر. مضيفا: العراق الذي كان يُعرف قديما بأسم "ميزوبوتاميا" ينطوي على تراث ديني هائل من الاديان الابراهيمية والاديان غير السماوية التي تشكل الآن معتقدات بعض اقلياته الدينية. فالبلاد احتوت المركز الروحي لليهود قرابة الألف عام، وكان رأس الجالوت البابلي هو المرجع الأكبر ليهود العالم، وفيه نشأت أولى وأهم الأكاديميات اليهودية وفيها مزارات الأنبياء حزقيال (ذو الكفل) ودانيال الخ.  وذكر سلوم: في الذاكرة اليهودية ما يزال صدى بابل ماثلاً، والتلمود البابلي أهم من التلمود الأورشليمي (يوجد في العراق 37 كنيسا يهوديا وأوقاف خاصة بهم)، كما يعد العراق المركز الروحي المهم للمسيحية ( كنيسة المشرق التي حتى تاريخ أواخر القرن 14 م قد انتشرت من الشرق حتى الهند والصين وجنوب شرقي آسيا وايران وأفغانستان وتركستان) وكانت تتبع مرجعها الروحي الأكبر جاثليق بطريرك كنيسة المشرق وكرسيه في المدائن ثم في بغداد، وما يزال سكان الملابار (بولاية كيرالا) في جنوب الهند يتبعون روحياً لها، كما ان المرجعية الدينية العالمية للصابئة المندائيين والايزديين في العراق ومرجعية الكلدان العالمية فضلا عن المركز الروحي للطائفة الشيخية التي يتبعها ما يقارب من 6 ملايين نسمة يتبعون لرئيسها الروحي المقيم بالعراق، وهم يتوزعون بين الخليج وايران وأذربيجان، فضلا عن الشبك الذين يعدون أقلية عراقية بامتياز.  واضاف: عضو المجلس العراقي لحوار الأديان: بالنسبة للاسلام الروحي تعد المزارات الصوفية في العراق الأهم عالميا (عبدالقادر الجيلاني، والجنيد البغدادي ومعروف الكرخي، الرفاعي الخ) فضلا عن مزار فضولي في كربلاء بالنسبة للطائفة البكتاشية وتكاياها المنتشرة في النجف وكربلاء وسنجار وبغداد وكركوك، وحيث كان أعمدة البكتاشية من أمثال نسيم البغدادي، وفضل الله الحروفي، كما يتطلع المسلمون السُّنة الى ضريح الإمام الأعظم "أبو حنيفة" الذي يعد من أهم المزارات المقدسة ببغداد، مستطرقاً: مثلما يعد المركز الروحي الأعلى للطائفة الشيعية عراقيا، حيث يقيم المرجع الأعلى في النجف الأشرف، وهي المدينة التي ورثت الكوفة، وتُعدّ الكوفة رابع مدينة مقدسة لدى الشيعة مع مكة والمدينة والقدس، وينظر شيعة العالم الذين يفوق عددهم 300 مليون نسمة إلى النجف كعاصمة روحية لهم، ويرجعون إلى مراجعها وحوزاتها العلمية في تصريف شؤون دينهم ودنياهم . طريقة إدارة التعددية : من نموذج الدولة الأمة إلى أنموذج دولة المكونات واشار سلوم الى ان أنموذج الدولة/الأمة الذي طبق في العراق خلال 1921-2003 كان أنموذج دولة/ أمة وفق مضمون علماني عروبي قومي استبعد التقاليد الثقافية للجماعات السكانية المختلفة ، فضلا عن عدم الاعتراف بالتعددية اللغوية، وجرَّ ذلك إلى كوارث انتهت بسقوط نموذج الدولة/الأمة وفسح مجال لبديل جديد لم ينجح حتى هذه اللحظة في الحفاظ على التنوع.  ثم فسح المجال بعد عام 2003 لبروز موديل آخر لإدارة العددية هو أنموذج دولة المكونات. كيف ننقــذ التعددية ؟ يرسم سلوم خطة انقاذ للتعددية تتضمن تقديم مقاربة تكاملية التي تتضمن اصدار تشريعات لتعزيز التعددية ، واستحداث مناهج دراسية ملائمة لمجتمع تعددي ، فضلا عن تنشيط الحوار بين الاديان، واخيراً التركيز على العمل مع الشباب. تعزيز التعددية عن طريق إصدار تشريع يرى سلوم أن المطالبة بالمساواة وعدم التمييز يمكن ان تتطور الى محاولة فرض قيم بديلة للتمييز على اساس التصنيف والفرز الأثنوطائفي بعد 2003 نحو تأكيد قيم المواطنة على قاعدة الاعتراف بالتعددية، ومن ثم تتحول المطالبة بالمساواة وعدم التمييز الى محاولة اصلاحية لنظام المحاصصة الطائفية الذي عرقل انطلاق دولة المواطنة خلال السنوات الماضية.  إن إصلاح هذا النظام، وتعديل هذه الثقافة عن طريق التشريعات، يشكل أولى الخطوات في حزمة الإجراءات التي نقترحها، والتي تكوّن المقاربة التكاملية لمشكلة الأقليات.  المناهج الدراسية بين التعديل واستحداث مناهج جديدة  يناقش سلوم مسألة استحداث مناهج دراسية جديدة تعزز التعددية، فقد شهدت المناهج الدراسية في العراق ما بعد 2003 بعض التعديلات، استجابة للتحولات التي حدثت منذ ذلك التأريخ، إلا أن هذه التعديلات لا تزال تفتقر إلى منظور شامل ولا تعكس ستراتيجية محددة، وتتركز مقاربة سلوم في تحفيز النقاش حول اهمية أستحداث مناهج جديدة، وهي المقاربة التي يتبناها سلوم بما تنطوي عليه من (تصميم هذه المناهج) مع تأهيل (ملاكات تدريسية جديدة)، ومن ثم محاولة إصلاح العملية التعليمية التي تتميز بالجمود سواء من ناحية المناهج الدراسية أم طرائق التدريس. حوار الأديان كآلية وقائية لحل النزاعات الأثنية كما ناقش د. سعد سلوم دور رجال الدين كجزء من بنية صناع القرار في البلاد، اذ حلل اهمية ان يكون رجال الدين جزءاً من جهد مشترك لبلورة خريطة طريق لحل النزاعات الأثنية في العراق، وتخيل دور فاعل للدين في تسوية الخلافات بدلا من ان يتم توظيفه لخدمة مصالح نخب سياسية تتلاعب بالرموز الدينية وتستخدم المشاعر الدينية ضمن ستراتيجية تعبئة ضد الآخر؟ وبشكل أكثر تحديداً : تطوير حوار بين رجال الدين كدبلوماسية "خيار ثانٍ" لمعالجة الصراع الطائفي او الحد من آثاره. تكمن أهمية المزاوجة بين "الديني" و "السياسي" من وجهة نظر سلوم في إيجاد دبلوماسية جديدة، وطرق بديلة ومبتكرة، في ظل بيئة عراقية معقدة، يأخذ فيها التنافس الديني وتحديد الهوية الدينية أشكالا جديدة ويتناول ولاءات بديلة جديدة، ويتضمن ستراتيجيات تأويلات خبيثة لتوظيف اشباح التاريخ بهدف إقلاق ارضية الحاضر، واستدعاء اساطير وتخليقها بهدف "شيطنة الآخر".  مبيناً: امكانيات توفر العراق على رجال دين معتدلين من مختلف الخلفيات الدينية والاثنية والطائفية وهو ما يفسح المجال لتخيل عمل جمعي عابر لخطوط التقسيم الدينية والطائفية، وتحدق بشكل مسهب عن تجربة المجلس العراقي لحوار الاديان الذي هو إطار مؤسسي يجمع ثلاث مؤسسات هي: مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية، وأكاديمية الآباء الدومنيكان للعلوم الانسانية، ودار العلم للامام الخوئي في النجف الأشرف.  وعن دور الإعلام في تعزيز التعددية وترسيخ التعايش السلمي بين المكونات تحدث الإعلامي والأكاديمي آدم بيدار عن برنامجه التلفزيوني ودور الإعلام في ترسيخ التعايش السلمي بين المكونات، قائلا: يعد «الإعلام» إحدى وسائل الصراع العنيف المحتدم بين الحق والباطل حيث يتم توظيف هذه الوسيلة لخدمة فكرة معينة أو أيديولوجية معينة لذلك فإن الإعلام كان وسيظل مسخراً لتحقيق الغايات وخدمة الأغراض وتحقيق أهدافه فهو في أدواته عمل محايد، ولكنه في مضمونه غير محايد، فإذا ما استخدمت هذه الأدوات لخدمة الخير والانسانية فإن نتاجها يكون نتاجاً طيباً، وإذا ما سخرت لخدمة غير ذلك فإن نتاجها يصبح نتاجاً بشرياً خبيثاً. من هذا المنطلق يبرز التساؤل الأكثر إلحاحاً: كيف يحقق الإعلام أهدافه ولا سيما في ما يتعلق بالحفاظ على التعددية؟ إن الهدف من الإعلام بصفة عامة هو محاولة التأثير على الجماهير لتكوين رأي عام «موحد إن أمكن» حول قضية لتغيير سلوك الجماهير. وهل تمكن الإعلام العراقي من القيام بدوره؟ يقول بيدار يرى الصحفي خدر دوملي أن وسائل الإعلام العراقي أمام هذه التعددية الدينية عاجزة إلى الآن في التعاطي مع قضايا التعددية الدينية بسبب افتقارها للمهنية وإلى أسس وآليات عمل الصحافة التخصصية. وإذا كانت قد أسهمت بشكل لا بأس به في التعريف بهذه الأديان والإشارة إليها في الكثير من المناسبات، إلا انها لم تتوفق إلى الآن في إحداث التغيير النوعي وجعل مسألة حضور ممثلي جميع الأديان على شاشات التلفاز وعلى صفحات الجرائد والمجلات متساوية وعادلة إلى حد ما أو تسهم وسائل الإعلام في جعل موضوع التعددية الدينية موضوعا حياتيا مقبولاً.  وعن دور إعلام إقليم كردستان قال: يبدو الأمر مختلفاً في إقليم كردستان الذي يتميز بتعدد ديني يرجع تاريخه لقرون عــدة مضت (الكاكائية، المسيحية، ..) تغطية لمناسبات دينية – برامج خاصة تُبث لأتباع دين محدد باللغة التي يتكلمون بها. مضيفا: يؤخذ على الإعلام الكردستاني عدم إعطاء المساحة المستحقة للعمل الإعلامي بقدر نسبة الأقليات، قلة الملاكات الملمة بمبادىء ومهنية العمل الإعلامي على الأقليات، يُضيـِّفون واحدا سياسيا ليتكلم عن رجل ديـن، يخلط الكنيسة الشرقية القديمة بالكاثوليكية ويحسب المسيحيين كلهم وحدة واحدة، والهم الكبير على جمع العدد الأكثر من بين المشاهدين أو المتابعين ولو كان على الأمن الإجتماعي والقومي. كذلك على حساب الضحايا وجعلهم ضحية مرة أخرىـ مثل: صورة فتاة ايزيدية تتكلم عن كيفية اغتصابها وصورتها ظاهرة تماماً فتكون ضحية ربما أكثر بسبب هذا اللقاء!  وتحدث بيدر عن برنامجه الحواري (عالم آدم) الذي يبث من شبكة رووداو، موضحا انه برنامج حواري، يعمل على تغطية لمناسبات الدينية وغير الدينية للأقلية مثل المساحة التي تعطي للأكثرية من دون فرق، مع إبراز تضحيات أبناء الأقليات عن طريق أعمال تلفزيونية، مثل: ستوري عن مار كريت، بالاضافة الى إيصال صوت مَن لا تصل أصواتهم، توب ستوري عن الأكراد اليهود الساكنين في (إسرائيل) مع تغطيات خاصة عن معاناتهم .

        المصدر: المدى